حتى لا تموت القصيدة من الجوع

22:33 مساء
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

الموسيقى ملح الشعر كما يقولون.. يستمتع بها العالم نشيداً أبدياً، فالقصيدة تستكمل فتنتها حين تتوشى بالوزن، وتبدو في كامل زينتها بالقافية. وأعتقد أن التدفق الإبداعي يأتي من مسالك كثيرة، فهناك من يستطيع أن يصطاد موسيقاه من مياه مفتوحة، فيتقدم بالحروف نحو الحياة، وينحدر مع الامتداد الطبيعي الذي يأتي من القلب، فيحدث أن تكون القصيدة متآلفة من جميع الاتجاهات، فالشعر ليس مجرد أوزان فقط، ولا قوافٍ محكمة وكلمات، لكنه مناطق مجهولة يرتادها الشاعر، ونسائم لا يشعر بها وهو يكتب. فالقصيدة مدينة كاملة، وعمل ناجز لا علاقة له بالمكبرات الصوتية، والأصل أن تكون القصيدة كالعصفورة قادرة على الطيران بحرية، حتى وإن كانت هذه العصفورة محكومة بالشجر والفضاء والأرض الواقعة تحت أجنحتها.

وإذا كان العصر تقدم، والشعوب العربية استطاعت أن تجرِّب ألواناً مختلفة من الأشكال الشعرية، فإنني أرى أن القصيدة تكون أجمل بكثير إذا كانت محلاة بالوزن، ومتحدة مع القافية. فالوزن الشعري لا يتقادم أبداً مهما تقدم فكر الشاعر، وحاول أن يتحرر من سطوة تفعيلات البحور الشعرية، وأن يتكلم في المساء على راحته، ويظهر أمام الآخرين أنه مفكر غربي خالص؛ إذ تكفي نظرة على تاريخ الشعر العربي ووديانه ليستطيع الشاعر أن يعرف أن الوزن في القصيدة العربية منذ أن كان حتى يومنا هذا هو أمر عظيم، ومهما غيرت القصيدة جلدها فهي في واقع الأمر اسمها قصيدة.. تصرخ وتبكي وتضحك وتتناقض وهي تتراقص بالوزن، فيهتز لها كل من يسمعها أو يقرأها، ثم تأتي القافية فتضبط هذا الإيقاع كنجوم تزين سماء كل هذه العمليات المتداخلة.

والعروض الشعري يجرف الشاعر نحو نهار القصيدة، وكثير من الشعراء كتبوا الشعر وأصبحوا نجوماً دون أن يهتموا بدراسة العروض، لكن الموهبة الفطرية كانت كامنة فيهم، والكثير من الشعراء أيضاً اطلعوا على عالم العروض وعرفوا عنه ما عرفوا، فأتقنوا فنّهم بشكل لافت. وقد يظن بعضهم في هذا العصر أنه لا ضرورة للتعرّف إلى فن العروض والقوافي، وأنه من الممكن الاكتفاء بكتابة الشعر مرسلاً دون التقيد بوزن أو قافية. ومما هو ثابت عندي أن الشاعر عليه أن يكون حقيقياً يمتلك أدواته حتى لا تموت قصيدته من الجوع، فالشاعر ليس أعمى ولا مغروراً من دون داع، فلا بد أن يقود الإتقان، الشاعر إلى كتابة القصيدة بشكل مكتمل، كما درج عليه الأولون. 

أما مسألة التجديد فهي إشكالية أخرى يجب أن تكون في سياق المعرفة الكاملة بالعروض والقوافي. وفي هذا العصر يتجدد الشعر وتتجدد موسيقاه، وتتجدد قوافيه، والنماذج الشعرية التي جددت في إطار الوزن والقافية، هي علامات فارقة في هذا الزمن، فيجب على الشاعر ألا يصل متأخراً وهو يحدِّق ويتأمل ثم يكتب، يجب عليه ألا يصل متأخراً عن الشعر، وكما يقول أبو تمام:

ولولا خِلال سنّها الشعر ما درى

بناة العلا من أين تُؤتى المكارم

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"