الشتاء القاسي القادم

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

عواصف الشتاء تهب على العالم بعد صيف أنذرت حرارته البشرية بضرورة التحرك، لإنقاذ الكوكب من سياسات الدول، وأفعال البشر المفسدة للأرض. وعلى الرغم من أن الكثيرين كانوا ينتظرون انتهاء موجات الحر الحارقة، آملين في شتاء أفضل، إلا أن مصطلح «الأفضل» على ما يبدو لم يعد صالحاً للاستخدام بعد أن تجاوزت الصراعات الدولية المنطق، ولم يعد الكبار يعبأون بعواقب قراراتهم المدمرة للطبيعة والقاتلة للحياة والمشردة للإنسانية والمهددة لكل ما أنعم به الله علينا. 
 عواصف الشتاء تهب حاملة معها «متلازمة اكتئاب الشتاء» التي تجاوزت إصابة أفراد ودفعهم للانتحار فقط؛ بل أصبحت تصيب شعوباً بكاملها. إنه الشتاء الذي قد يعجز الإنسان خلاله عن حماية نفسه من قسوته، وصخب رعده، وهيجان بحاره، وكثرة عواصفه، في ظل عجز حكومات دول كبرى عن توفير الطاقة ومتطلبات التدفئة لشعوبها، في ظل الحرب الأوكرانية التي قلصت إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا العجوز، والتي يمكن أن تحولها هذه الحرب إلى عاجزة أمام مواطنيها، وتستبدل موقعها على خريطة التقدم الإنساني من قارة تطمح وتستعمر وتقود وتقرر مصير غيرها، إلى قارة تبحث عمن يقرر مصيرها، شرط أن ينتشلها من أزماتها المتتابعة. 
 الصراع الغربي الروسي على أوكرانيا ألقى بظلال قاتمة على كل إنسان على الأرض، وألقى بظلال سوداء كالحة على أوروبا، القارة التي تواجه أسوأ أزمة طاقة في تاريخها، ولعل الطوابير على محطات البترول في فرنسا التي تناقلتها وكالات الأنباء ومحطات التلفزيون العالمية الأسبوع الماضي لم تكن ترد على خيال أكثر الناس تشاؤماً. 
 أكثر ما يشغل الأوروبيون اليوم هو كيفية تدبير وسائل للتدفئة تنجيهم من قسوة الشتاء المنتظر في ظل نقص إمدادات الوقود، ويبدو أنهم لم يجدوا أمامهم سوى التخلي عن حياة الرفاهية المعاصرة والعودة بالزمن عقوداً إلى الوراء؛ حيث لا يجدون أمامهم سوى العودة إلى زمن المواقد وتدفئة المنازل بالحطب والخشب.
 ففي ألمانيا قطع سكان برلين جميع الأشجار تقريباً في حديقة تيرغارتن المركزية، بهدف استخدامها للتدفئة، وشرعوا بالاهتمام بروث الخيول كوقود، وقد خيّمت عليهم ذكريات مقلقة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب مخاوف الناس من نقص الوقود، بينما راجت في بريطانيا تجارة الحطب ونصح مديرو المدارس بأن يرتدي الأطفال ملابس أكثر دفئاً بسبب تخفيض التدفئة في المدارس، بينما سيتم تزويد أطفال الأسر ذات الدخل المنخفض بالسترات الصوفية مجاناً؛ وفي فرنسا تضاعفت أسعار ألواح نشارة الخشب المضغوطة، وبلغت 600 يورو للطن، أما في المجر فحظرت السلطات تصدير الألواح الخشبية المستخدمة للتدفئة، وقيدت رومانيا سعر الحطب لمدة 6 أشهر.
 هذه نماذج من استعدادات السكان في مختلف الدول الأوروبية للشتاء؛ حيث ستعود الأسر الأوروبية للالتفاف حول الموقد التقليدي، وستتخلى إجبارياً عن وسائل التدفئة الحديثة، لعدم توافر الوقود اللازم لها، وهو ما سيسفر عن زيادة التلوث في الهواء، ويمكن أن يرفع نسب الإصابة بالأمراض الصدرية في قارة كانت تتباهى بالأمس القريب بأنها سيدة العالم في رفاهية وارتفاع مستوى معيشة أبنائها. 
 مؤسسات رسمية وغير رسمية في دول أوروبية تنظم حالياً، دورات تدريبية حول الطهي من دون كهرباء، ووسائل بديلة للحصول على مياه الشرب والتخزين في حالات الطوارئ، وكذلك الإسعافات الأولية للإصابات وإطفاء الحرائق، ما يعني بأن القارة مقبلة على شتاء لن تقتصر قسوته على البرد ونقص الوقود ومستلزمات التدفئة، لكنها مقبلة على تغير ملامح الحياة، وأن الأزمة ستمتد إلى مختلف أدوات ووسائل تدبير سبل العيش. 
 الشتاء الأوروبي سيكون مظلماً أيضاً؛ حيث لم تكتف حكومات القارة برفع أسعار الكهرباء، بل إنها تقوم بتهيئة مواطنيها لانقطاع الكهرباء ساعات خلال الشتاء، ما ينذر بليل مظلم في بعض الأوقات، ففي بريطانيا قالت هيئة نظام شبكة الكهرباء الوطنية: إن الأفراد والشركات ربما يواجهون انقطاعات مقررة لمدة ثلاث ساعات، لضمان عدم انهيار الشبكة.. وطالب مسؤول ألماني الناس بضرورة معرفة كيفية التصرف حال انقطاع التيار الكهربائي. 
 انعكاسات الحرب على العالم خطرة، لكنها على أوروبا أخطر، وقد يكون هذا العام فصل الإحباط واليأس بعد الانتقال الإجباري إلى الحياة البدائية.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3p9wcezx

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"