عادي

«العجوز والبحر».. مرة ثانية

23:48 مساء
قراءة 4 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

«كل شيء فيه يتصف بالقدم، ما عدا عينيه اللتين كانتا بنفس لون البحر، ويطل منهما المرح وعدم اليأس».

كان الرجل العجوز يقطن كوخاً مصنوعاً من جذوع النخيل، وخيوطه الداخلية بنية اللون، مكسوة بألياف متشابكة من سعف النخيل، وفي الكوخ سرير، ومائدة، ومقعد واحد، ومساحة صغيرة مكسوة بالتراب يطهو العجوز فوقها طعامه على الفحم النباتي، وصورة معلقة على الحائط للقلب المقدس، بحسب الاعتقاد المسيحي في القرون الوسطى، وأخرى للعذراء مريم، وبقايا تذكارية من زوجته التي غادرت دنياه، وصورة لها ذات ألوان باهتة كانت معلقة على الحائط، غير أنه أنزلها، لأنه كلما نظر إليها كانت تحمل إليه إحساساً بالوحدة والغربة الموحشة.

كان هذا الكوخ، الذي وصفه أرنست هيمنجواي، هو كوخه في روايته الشهيرة «العجوز والبحر» والتي نشرها في عام 1952 ونالت جائزة نوبل للآداب في عام 1954.

قرأت هذه الرواية في سنوات الشباب، وعدت إلى قراءتها في السنوات الأخيرة، متأملاً رمزيتها وفلسفتها، مستكشفاً أبعادها، والأفكار التي طرحها هيمنجواي حول صراع الإنسان في الحياة، ومع قوى الطبيعة، وهواجس تقدم العمر، وما يفتقده البعض من تفكير إيجابي أو شغف بالحياة، أو توقف للتواصل بين الأجيال.

استهل العجوز، شيخ البحر، رحلته في الصيد، برفقة غلام، كان يحظى بمحبة العجوز ورعايته، وقد علمه مهارة الصيد، وحينما فشل العجوز في اصطياد سمكة معتبرة طوال 84 يوماً، تركه الغلام، بعد أن منعه أبواه من مرافقته، بحجة أن العجوز منحوس، وسيئ الحظ.

لكن الغلام كان يهرع إلى كوخ العجوز في المساء، يساعده في لملمة حبال الصيد وشراع القارب، وتخفيف هيبة معلمه.

كان الغلام يسمعه، وهو يتمتم ويتحدث مع نفسه، متأملاً ومتسائلاً: «لماذا خُلقت الطيور الصغيرة بهذه الرقة، وهذا البحر بهذه القسوة؟».

ظل العجوز عازماً على الانتقام لكرامته، والتي استباحها الصيادون بسخريتهم، فقرر في اليوم الخامس والثمانين خوض معركة جديدة في البحر، واستجماع قوته لإثبات ذاته، وضع «الطُعم» في سنارته، وعلقت به سمكة ضخمة، وبدلاً من أن يسحبها، سحبته وراءها بمهارة وحركات دائرية، كادت أن تقلب قاربه، وكان يخاطبها، بصبر وبساطة، و«يرجوها أن تتناول الطُعم» اللذيذ، لكن السمكة (المارلين) ظلت تعانده بضراوة ولا تعرف اليأس.

وخاطب العجوز نفسه قائلاً: «من المستحيل أن أضعف أمام هذه السمكة». صراع إرادات ورباطة جأش، أرهقته وأتعبها، وقتلها في النهاية، وتعلم منها درساً في التحدي والإصرار.

خاض العجوز معركة أُخرى مع أسماك القرش المتوحشة والتي شمت رائحة دم السمكة فغافلته، ونهشت لحم السمكة، وتركتها هيكلاً عظمياً. وفوجئ الصياد بالأمر، وعاد إلى كوخه مُتعباً وحزيناً، بعد أن أرسى قاربه على الشاطئ، وبجواره عظام السمكة. وحينما شاهد الصيادون وروّاد الشاطئ هيكل السمكة العملاقة العظمى، أدركوا أن العجوز اصطاد سمكة لم يستطع أحد صيدها من قبل وهكذا.. أثبت الشيخ إرادته، وهزم الساخرين منه، وعندها فرح الغلام وبكى.

قدَّم الروائي هيمنجواي الكثير من الحِكَم والنصائح والدروس في روايته، فضلاً عن إثارته لأسئلة فلسفية ووجودية، ذات صلة بالشك والإيمان، وبالضعف والقوة، وباليأس والأمل، وأخرى تتعلق بالصراع الذي لا ينتهي في هذه الحياة، وخفايا النفس البشرية، وضرورة التمسك بالأمل والإرادة لمواجهة مصاعب العيش، وتقلبات الحياة والطبيعة.

لم يفقد العجوز سانتياجو إيمانه بنفسه وثقته بقدراته، وظل يخاطب نفسه قائلاً: «سأذهب بعيداً في البحر، لأعود حين تُغير الريح اتجاهها». حتى حينما خسر صيده، عاد أيضاً محملاً بذكريات وفخر رغم الخيبات.

في صراع بطل الرواية مع السمكة الضخمة تتمازج مسألتا كسب الرزق، واستعادة كبرياء الصيَّاد، الذي عانى النحس وسوء الحظ.

ولد هيمنجواي في عام 1899، ومارس القنص وصيد الأسماك في صغره، وكان يمضي أشهر الصيف في كوخ مطل على بحيرة في شمال ميتشيجين الأمريكية، ونشأت بينه وبين البحر والهواء الطلق حالة عميقة من الولع والشغف طوال حياته، وتعلق بالطبيعة وعشقها، عمل سائقاً لعربات الإسعاف للصليب الأحمر الأمريكي ومستشفيات الميدان في الحرب العالمية الثانية، وأصيب بجراح بالغة في إحدى المناطق الإيطالية ومنح وسام الشجاعة وصليب الحرب.

وفي روايته «وداعاً للسلاح»، وصف أبطاله فيها، بحساسيتهم الشديدة تجاه قسوة الحياة، وخلوها من المعنى، بعدما شوهتهم الحرب أو أصابتهم بالإرهاق والضجر والاشمئزاز. وقد استلهم هذه الرواية من خبراته في هذه الحرب، وهي من أفضل روايات الحروب، وقدم الحرب كإهانة بالغة للإنسانية، كما كتب رواية أخرى «لمن تدق الأجراس» والتي تقع أحداثها إبان الحرب الأهلية الإسبانية.

......

كلما استحضرت رواية «العجوز والبحر»، تذكرت أبعادها الدنيوية والأخلاقية (الدينية)، وتلك المباراة العادلة ما بين الشيخ والسمكة، وتدخل (القرش) الذي أدخل عاملاً جديداً لتلك المباراة لعله عامل آثم شرير، مما توجب على العجوز (سانتياجو)أن يعتذر قائلاً: «إنني آسف لك أيتها السمكة (المارلين) لقد ساء كل شيء».

......

نتذكر «شيخ البحر» كلما أصاب أحدنا يأساً، فلنزرع الأمل يا أصدقاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/59sbh5rp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"