الشارقة: علاء الدين محمود
«إلهي، أنارت النجومُ، ونامت العيون، وغلّقت الملوكُ أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك».
تلك الكلمات العبقة التي يسكنها الجمال، هي للعابدة الزاهدة رابعة العدوية «100هـ / 717م -180هـ / 796م»، وتسمى كذلك برابعة القيسية أم عمرو، وهي امرأة من أتباع التابعين، اشتهرت بالعبادة والزهد والورع، وأثنى عليها جماعة من أئمة السلف منهم: سفيان الثوري والإمام الذهبي وابن الجوزي، وقال الثوري عندها يوماً: وا حزناه!. فقالت: لا تكذب بل قل: وا قلّة حزناه، لو كنت محزوناً لم يتهيّأ لك أن تتنفس. وكانت تقول: «ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً». ومن وصاياها: «اكتموا حسناتكم كما تكتموا سيئاتكم»، وولدت العدوية في القرن الثاني الهجري، بالبصرة في العراق، وهي بنت إسماعيل العدوي، وسميت رابعة؛ لأنها كانت الابنة الرابعة على ثلاث أخوات، وقد ولدت لأبوين فقيرين؛ لكنهما كانا من المؤمنين الورعين، ونشأت في بيئة دينية قويمة، وحفظت فيها القرآن ورتلته، وكان لديها من عذوبة الصوت ما يشجي السامعين.
عندما توفي والدها، صارت العدوية وحيدة، حيث تفرق عنها الإخوة، وصادف في تلك الأوقات أن حل قحط ووباء ومرض شديد في البصرة، وسادت الفوضى واختلال الأمن فكثر اللصوص، ووقعت العدوية بسبب حظها العاثر في قبضة لص سارع بأخذها ليقوم ببيعها في سوق النخاسة لأحد السادة، والذي كان حاد الطابع، وفاجر النفس، وقد ذاقت الأمرين في بيته وتحت خدمته، فقد كان يسومها العذاب والذل، لكن نفسها الأبية كانت تقودها إلى الله سبحانه وتعالى فتناجيه وهي تنتحب فتقول: «إلهي، أنا يتيمة معذّبة أرسف في قيود الرّق، وسوف أتحمّل كل ألم وأصبر عليه، ولكنّ عذاباً أشد من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكّك أوصال الصبر في نفسي، باعثه ريب يدور في خَلَدي: هل أنت راضٍ عنّي؟ تلك هي غايتي»، وتلك كلمات تدعو إلى التأمل، حيث لم تكن العدوية العابدة تهتم بكل ذلك العذاب والألم والبؤس؛ بل كانت ترى أن هنالك عذاباً ووعيداً أكبر، ذلك إن لم يرض الله سبحانه وتعالى عنها، فيا لها من روح حرة تتحدى قيد العبودية، فهي لا تأبه فالعقل مشغول بهمٍ أكبر هو حب الله تعالى وإرادة التقرب إليه ونيل رضاه.
وهذه المقولة للعدوية، والتي نحن بصددها، «إلهي، أنارت النجومُ، ونامت العيون..الخ» هي في الأصل مناجاة طويلة لرب العالمين، فكانت تقول ذلك القول، ثم تُقبل على صلاتها، فإذا كان وقت السّحَر وطلع الفجر قالت: «إلهي، هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليتَ شعري، أَقَبِلتَ مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ فأعزى؟ فوَعزّتك هذا دأبي ما أحييتني وأَعنتني، وعزّتك لو طردتني عن بابك ما برحتُ عنه لما وقع في قلبي من محبّتك»، وتلك مناجاة بديعة وعظيمة تجلى فيها معاني الحب الصادق والخالص لرب العالمين، فكأنما صفت روحها ورقت ولم يبق فيها شيء غير خالق الكون سبحانه وتعالى.
وتلك الكلمات العميقة تحمل معاني الإيمان الصادق الذي ينهض على الزهد الحقيقي، والعبادة الخالصة لله تعالى من دون تكلف أو رياء أو نفاق، وتلك هي الأهداف التي وضعها المتصوفة نصب أعينهم، فساروا في طريق المحبة وعملوا على مراقبة أنفسهم في كل صغيرة وكبيرة، فتأدبوا بأدب الإسلام ونهلوا من معين قيمه وأخلاقه، فالرحلة الطويلة إلى الله تعالى تطلب زاداً، ولا زاد غير الإيمان والتقوى ونهي النفس عن الهوى، فكانت أشعارهم تعبر عن كل تلك الأحوال والمقامات، ثم إنها كانت الوسيلة في النجوى والتضرع في خلواتهم وسفرهم الدائم وسياحتهم المستمرة، لا يحملون غير محبة الله تعالى، يرجون رحمته وقربه، فصفت قلوبهم ورقت نصوصهم من أقوال وأشعار وشذرات تسافر بالروح نحو عوالم أخرى محتشدة بكل أشكال الجمال وأنواع الدهشة تعانق فيها الأنفس الفيض والمدد.
وكلمات العدوية هي نتاج ذلك الحب الذي ملك روحها وعقلها، فصارت لا ترى شيئاً غير طريق الله تعالى، ذلك الدرب الذي سارت فيه بعد سنوات قضتها بعيدة عن رب العالمين، منغمسة في حياة الترف واللهو، حتى غمرتها أنوار الهداية، فلا شيء يحول بين العبد وربه، فإن حانت لحظة توبته وهدايته، تلفت القلب إلى نور الرب؛ ليجده في كل مكان، يغمره بالمحبة والمدد، ولعل العدوية الصوفية هي نموذج للمرأة التي جاءت إلى ربها، بعد يأس فوجدت ما عنده من كرم ورحمة أكبر من أن يسعه شيء، تابت إليه بعد سنوات تيه لم تدرك فيها معنى الحب الحقيقي، ولا الأمان ولا الطمأنينة؛ بل عاشت في عالم من الزيف والاغتراب عن الله وعن ذاتها، فكانت أن قادتها خطى الأقدار المسطرة إلى طريق الهداية، لتبدأ حياة جديدة عامرة بالأنوار والمحبة التي اشتهرت بها فكتبت فيها المقولات والقصائد الشعرية.
«إلهي، أنارت النجومُ، ونامت العيون، وغلّقت الملوكُ أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك».
تلك الكلمات العبقة التي يسكنها الجمال، هي للعابدة الزاهدة رابعة العدوية «100هـ / 717م -180هـ / 796م»، وتسمى كذلك برابعة القيسية أم عمرو، وهي امرأة من أتباع التابعين، اشتهرت بالعبادة والزهد والورع، وأثنى عليها جماعة من أئمة السلف منهم: سفيان الثوري والإمام الذهبي وابن الجوزي، وقال الثوري عندها يوماً: وا حزناه!. فقالت: لا تكذب بل قل: وا قلّة حزناه، لو كنت محزوناً لم يتهيّأ لك أن تتنفس. وكانت تقول: «ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً». ومن وصاياها: «اكتموا حسناتكم كما تكتموا سيئاتكم»، وولدت العدوية في القرن الثاني الهجري، بالبصرة في العراق، وهي بنت إسماعيل العدوي، وسميت رابعة؛ لأنها كانت الابنة الرابعة على ثلاث أخوات، وقد ولدت لأبوين فقيرين؛ لكنهما كانا من المؤمنين الورعين، ونشأت في بيئة دينية قويمة، وحفظت فيها القرآن ورتلته، وكان لديها من عذوبة الصوت ما يشجي السامعين.
عندما توفي والدها، صارت العدوية وحيدة، حيث تفرق عنها الإخوة، وصادف في تلك الأوقات أن حل قحط ووباء ومرض شديد في البصرة، وسادت الفوضى واختلال الأمن فكثر اللصوص، ووقعت العدوية بسبب حظها العاثر في قبضة لص سارع بأخذها ليقوم ببيعها في سوق النخاسة لأحد السادة، والذي كان حاد الطابع، وفاجر النفس، وقد ذاقت الأمرين في بيته وتحت خدمته، فقد كان يسومها العذاب والذل، لكن نفسها الأبية كانت تقودها إلى الله سبحانه وتعالى فتناجيه وهي تنتحب فتقول: «إلهي، أنا يتيمة معذّبة أرسف في قيود الرّق، وسوف أتحمّل كل ألم وأصبر عليه، ولكنّ عذاباً أشد من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكّك أوصال الصبر في نفسي، باعثه ريب يدور في خَلَدي: هل أنت راضٍ عنّي؟ تلك هي غايتي»، وتلك كلمات تدعو إلى التأمل، حيث لم تكن العدوية العابدة تهتم بكل ذلك العذاب والألم والبؤس؛ بل كانت ترى أن هنالك عذاباً ووعيداً أكبر، ذلك إن لم يرض الله سبحانه وتعالى عنها، فيا لها من روح حرة تتحدى قيد العبودية، فهي لا تأبه فالعقل مشغول بهمٍ أكبر هو حب الله تعالى وإرادة التقرب إليه ونيل رضاه.
وهذه المقولة للعدوية، والتي نحن بصددها، «إلهي، أنارت النجومُ، ونامت العيون..الخ» هي في الأصل مناجاة طويلة لرب العالمين، فكانت تقول ذلك القول، ثم تُقبل على صلاتها، فإذا كان وقت السّحَر وطلع الفجر قالت: «إلهي، هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليتَ شعري، أَقَبِلتَ مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ فأعزى؟ فوَعزّتك هذا دأبي ما أحييتني وأَعنتني، وعزّتك لو طردتني عن بابك ما برحتُ عنه لما وقع في قلبي من محبّتك»، وتلك مناجاة بديعة وعظيمة تجلى فيها معاني الحب الصادق والخالص لرب العالمين، فكأنما صفت روحها ورقت ولم يبق فيها شيء غير خالق الكون سبحانه وتعالى.
وتلك الكلمات العميقة تحمل معاني الإيمان الصادق الذي ينهض على الزهد الحقيقي، والعبادة الخالصة لله تعالى من دون تكلف أو رياء أو نفاق، وتلك هي الأهداف التي وضعها المتصوفة نصب أعينهم، فساروا في طريق المحبة وعملوا على مراقبة أنفسهم في كل صغيرة وكبيرة، فتأدبوا بأدب الإسلام ونهلوا من معين قيمه وأخلاقه، فالرحلة الطويلة إلى الله تعالى تطلب زاداً، ولا زاد غير الإيمان والتقوى ونهي النفس عن الهوى، فكانت أشعارهم تعبر عن كل تلك الأحوال والمقامات، ثم إنها كانت الوسيلة في النجوى والتضرع في خلواتهم وسفرهم الدائم وسياحتهم المستمرة، لا يحملون غير محبة الله تعالى، يرجون رحمته وقربه، فصفت قلوبهم ورقت نصوصهم من أقوال وأشعار وشذرات تسافر بالروح نحو عوالم أخرى محتشدة بكل أشكال الجمال وأنواع الدهشة تعانق فيها الأنفس الفيض والمدد.
- تجربة
وكلمات العدوية هي نتاج ذلك الحب الذي ملك روحها وعقلها، فصارت لا ترى شيئاً غير طريق الله تعالى، ذلك الدرب الذي سارت فيه بعد سنوات قضتها بعيدة عن رب العالمين، منغمسة في حياة الترف واللهو، حتى غمرتها أنوار الهداية، فلا شيء يحول بين العبد وربه، فإن حانت لحظة توبته وهدايته، تلفت القلب إلى نور الرب؛ ليجده في كل مكان، يغمره بالمحبة والمدد، ولعل العدوية الصوفية هي نموذج للمرأة التي جاءت إلى ربها، بعد يأس فوجدت ما عنده من كرم ورحمة أكبر من أن يسعه شيء، تابت إليه بعد سنوات تيه لم تدرك فيها معنى الحب الحقيقي، ولا الأمان ولا الطمأنينة؛ بل عاشت في عالم من الزيف والاغتراب عن الله وعن ذاتها، فكانت أن قادتها خطى الأقدار المسطرة إلى طريق الهداية، لتبدأ حياة جديدة عامرة بالأنوار والمحبة التي اشتهرت بها فكتبت فيها المقولات والقصائد الشعرية.
- علامة