أوروبا والاستقلال الاستراتيجي

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

لماذا تتوالى التصريحات الأوروبية بخصوص «الاستقلال الاستراتيجي» عن الولايات المتحّدة؟ وهل تقدر القارة العجوز على هذا الاستقلال فعليّاً؟ أسئلة يتداولها المراقبون لتفاعلات تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن العلاقة بواشنطن، بعد عودته من رحلة إلى الصين واجتماعه إلى الرئيس شي جي بينغ..

 لنقل إن ماكرون ألقى قنبلة في مسار العلاقات مع واشنطن، واستعاد خطاباً استقلالياً يعود إلى خمسينات القرن الماضي، وكان يتزعمه الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول، الذي كان يدافع عن فكرة استقلال القرار الأوروبي عن القوى المتصارعة في ذلك الوقت، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ولكن حديث ماكرون وهو عائد من الصين وبتلك الصفة الاستعجالية، يثبت أنّ ملفات كثيرة باتت بيد بكين وما على الأوربيين إلا أن ينقذوا أنفسهم قبل فوات الأوان.

 الحرب الأوكرانية غيّرت التوازنات العالمية، وغيّرت العلاقات الدولية، وهو ما سيكون له تأثير في العلاقات بين أوروبا وواشنطن. فعند انتخاب جو بايدن، فرح الأوروبيون بإزاحة دونالد ترامب الذي كان يتخلى بصورة واضحة عن أوروبا. وحين خسارة الديمقراطيين للانتخابات النصفية في الكونغرس، تأكد للأوروبيين أنّ العلاقات بينهم وبين البيت الأبيض لن تكون مستقرة مستقبلاً؛ لذلك بدأ التفكير في ما يعرف بالاستقلال الاستراتيجي.

 إذ يقول تورستن بنر، مدير معهد السياسة العالمية العامة في برلين، في مقال كتبه لموقع«DW» إنه «من المتوقع أن يدخل بايدن التاريخ كآخر مدافع عن العلاقات عبر الأطلسي في البيت الأبيض». وقريباً سينتهي زمن الدعم الأمني والسياسي السخي، مهما كانت هوية من سيأتي بعد بايدن إلى البيت الأبيض، لأن الولايات المتحدة ستركز في المستقبل على الصين أكثر بكثير.

 والحقيقة أنّ أمريكا تمارس الابتزاز تجاه الأوروبيين، وتستغل حاجتهم إلى الطاقة وتبيعهم إياها بأضعاف ما كانوا يحصلون عليه من روسيا. كما أنها تمارس عليهم هيمنة في قطاعات التسليح والتكنولوجيا فائقة الذكاء، وهذا ما أشعر الأوروبيين بأنهم باتوا في حالة تبعية غير مسبوقة.

 جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كتب مقالاً قال فيه: إن أوروبا مهددة بأن تصبح «غير ذات أهمية». ويدلل على ذلك بتراجع وزن أوروبا في العالم بقوله: «قبل 30 عاماً كانت حصة قارتنا ربع الرخاء العالمي. في غضون 20 عاماً ستكون حصتنا من الإنتاج الاقتصادي العالمي 11 في المئة كحد أقصى». والاستقلال الاستراتيجي هو «قضية البقاء السياسي».

 الرئيس الفرنسي استعمل مصطلح الانعتاق، وكأنه يقرّ بأن أوروبا باتت مستعبدة من الاحتكار الأمريكي لقراراتها ومصالحها الاقتصاديّة، وهو يرى أن التحرر من هذا الانعتاق طريقه تمر عبر التحرر من قبضة الدولار والاستقلال الطاقي والعسكري، والاستقلال التكنولوجي. 

 وقال ماكرون، خلال كلمة في معهد «نيكسوس» الهولندي في لاهاي، إنّ «السيادة الأوروبية» ربما بدت في يوم من الأيام وكأنّها مجرد «فكرة فرنسية، أو حتى تفكير رغبوي»، مشيراً إلى خطر اعتماد أوروبا بشكل كبير على القوى العالمية الأخرى. 

 واعتبر الرئيس الفرنسي في كلمته أنّ هذا الاعتماد «يضع أوروبا في موقف لا تستطيع فيه أن تقرر بنفسها». وأضاف ماكرون «إنّ السيادة الأوروبية تعني أنّ القارة يمكن أن تختار شركاءها وتشكل مصيرها بدلاً من أن تكون مجرد شاهد على التطورات الدراماتيكية لهذا العالم»، مشيراً إلى أنّ «هذا يعني أننا يجب أن نسعى جاهدين لوضع القواعد بدلاً من تلقيها».

 إذاً، هي معركة تحرر شاملة بعد أن أيقن الأوروبيون أنّهم كانوا ضحية خديعة حرب أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة ربما تريد أن تجعل منهم وقود حروب جديدة ضد روسيا والصين، ولهذا أصر ماكرون على تحييد أوروبا عن المعارك التي لا مصلحة للأوروبيين فيها.

 غير أن السؤال الذي يتطلب دراسات عميقة، هل تملك أوروبا أدوات التحرّر؟ وهل ستسمح أوروبا لبقية شعوب العالم بالاستقلال الاستراتيجي عنها، إن رغبت في الانعتاق من الهيمنة الأوروبية؟ هل ستستعيد أوروبا حقيقة قيم حقوق الإنسان الفعلية كما نادت بها الثورة الفرنسية؟ وهل ستتمكن الشعوب الإفريقية من التعبير عن حريتها واختيار شركائها الاستراتيجيين من دون وصاية غربيّة؟ هذه هي الأسئلة التي يجب على الأوروبيين أن يجيبوا عنها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p86jf9r

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"