الحنين بعد الرحيل

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

منذ أيام وكل ما حولي يذكرني بالفقد وقصص الفقد. الكثيرون من حولي يودّعون عزيزاً، مَنْ في العمل، الأصدقاء، الجيران، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، تعجّ أخبارهم بالرحيل، والوداع، وكثرة موت الفجأة، ومن يرحل بمرض، ومن يرحل دونما توقع لا يشكو علة. كل الأنباء قد تحزننا، وقد تربكنا، وقد رجعت بذاكرتي لمن فقدناهم أيام الجائحة، ربما الأعداد اليوم حتى أكثر ممن رحلوا عن المرض، لكن الذي أتعجب منه كيف أن البشر نسوا أن الحياة لا مستقر فيها ولا مقام، وأن الموت والفقد أصعب دروس الحياة.
رحلت جدتي في بداية عام ٢٠٢١ كأحد شهداء «كورونا» ونحسبهم كذلك عند الله، رحلت وها هو عامها الثالث ينتصف، لم يكن الرحيل سهلاً، ودعنا روحاً وقلباً احتوى عمرنا، وقصتنا، وكل ما سيأتي بعدها، التفاصيل مربكة، لكنه الفقد الذي سيتجدد مع من عشنا حياتنا هذه معه، وكم نحن محظوظون أن رحمة الله بنا كبيرة أنه حولنا يرعانا ويخفف عنا. في الرحيل دروس وعبرة، أيقنا بعد رحيلها أن الحب لا يكرر، أن العائلة غالية، وأن الأم قيمة عظيمة.
ويبقى سؤالي لمن حولي: هل تغيرت؟ وهل تغيرت حياتك بهذا الفقد والرحيل؟ كيف لا يزال في قلب الكثيرين تلك الأنفة والجبروت، تلك الحالة العصية، من قهر من حولهم وظلمه، تلك القلوب التي لا تراعي ولا تتفقد غيرها؟! كيف عند البعض تضاعف الجشع وكبرت قيمة الطمع؟ ومعذرة فهي ليست قيمة عالية، بل قيمة مادية عالية لديهم، بلا إنسانية..! وكيف بعد كل ما مررنا به، لا عبرة ولا عظة، ولا حتى احترام لمن علمنا وغيرنا؟!!
المتعالون والمتكبرون، القاسون ومن استحل حقوق غيره، أخبركم: في يوم جلست مع جدتي بملابس العزل، أمسك يدها، وحولها ممن يعاني مثلها من مرض «كوفيد»، لا حول لهم ولا قوة، رأيت الحياة تنساب منهم، ورأيت كيف أنني مجبرة على ترك يدها ووداعها، وكم أتوق اليوم ليوم لقائها، هذه أكبر دروس الحياة، حين تنسل اليد منك فأنت ضائع محالة، فكيف بك تتنازل وتقبل أن تنسلّ منك يد الحق والأخلاق؟ وقبلها كيف ستواجه جبروت وعصف يد الملك الجبار؟ تذكر وكفى بالموت واعظاً، كل الديون تقع عند الرحيل، إلا ديون البشر وحقهم عندك.
في الرحيل، نبقى مع كل ما ترك لنا، ونعلم أننا في رحلة الحياة مسافرون، ولن يبقى فيها إلا الذكريات والأثر الجميل، الصورة المرسومة في الأذهان، كل ما تركناه خلفنا في الذكريات، هل تتحمل أن ترحل ولا تذكر، أن ترحل ولا يدعو لك أحد بل يدعو عليك؟ تذكر لا شيء يستحق سواك، فكن خيراً لنفسك قبل أن تدعى لما لا تطيق، وكن عند الرحيل جميلاً بما تحب وتتمنى. كن طيباً، كريماً بعطائك، سخياً بقيمك وعملك، وتأمل مَنْ ذهب وانتظر ما سيأتي، وكن بما آتاك الله رحيماً ودوداً.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p96dmhm

عن الكاتب

مؤلفة إماراتية وكاتبة عمود أسبوعي في جريدة الخليج، وهي أول إماراتية وعربية تمتهن هندسة البيئة في الطيران المدني منذ عام 2006، ومؤسس التخصص في الدولة، ورئيس مفاوضي ملف تغير المناخ لقطاع الطيران منذ عام 2011

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"