حوارات هادئة

00:17 صباحا
قراءة 4 دقائق

أسبغ الزمان علينا بأوقات نغيب فيها عن بعضنا بعضاً، وبأوقات تجمعنا لنناقش ما أنجزناه وما أخفقنا فيه خلال الغياب ولنحلم معاً ولأمتنا بأوقات هناء ورغد وكرامة. أما نحن فمجموعة من رجال ونساء التقينا على مرات حتى اكتمل ما اعتبرناه نصاباً متوافق الأهداف، وإن اختلفت أدواته وتعددت حتى تباينت مصادره. بيننا صناع قرار ومخططو سياسات وصناع رأي ونقاد أدب وأبطال دراما. أغلبنا اقترب من قلب السياسة الخارجية تنظيراً أو هواية أو تدريساً أو تنفيذاً أو كلها معاً.

اقترح أحدنا أن نحمل لاجتماع هذا الشهر قوائم بهموم الأهل في بلد كل منا. نفرش الهموم على المائدة لنختار أسبقها في الأهمية ثم نرتب الأسبقيات استعداداً للنقاش. استبعدنا بالتأجيل مناقشة قضية عجزنا عن الاستعداد في وقت مناسب للتعامل معها وأقصد الذكاء الاصطناعي وملحقاته وتوابعه. كما استبعدنا، لضيق الوقت المخصص للاجتماع، التعرض لتفاصيل ومجريات الحرب الدائرة بين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلف الناتو من جهة أخرى.

للانتقال مباشرة للنقاش صغنا ثلاثة عناوين رئيسية يتفرع عن كل منها عناوين جانبية. فيما يلي العنوان الأول ونتف، تمثل خلاصة ما دار حول أول همّ من همومنا.

* أولاً: التخبط في خطوات بناء الدولة الحديثة في العالم العربي: بين وحدة منقوصة وانفراط متسارع

لا جدال في أن الحكام العرب سواء منهم من تلقى من المستعمر مسؤولية بناء دولة أو من اختار لنفسه عبء تنفيذ هذه المهمة، جميعهم اكتشفوا بعد وقت قصير أو طويل أن إمكانات أقطارهم والبيئة المحيطة بها لم تساعدهم في أداء مهمتهم، بل ربما كانت من بين العوامل التي أحبطت مساعيهم. مرت سبعون عاماً ولم تتحول بعد أكثر «الأقطار» العربية إلى دول. صحيح أن اثنين وعشرين علماً اصطفت ترفرف على جوانب الطريق المؤدية إلى القاعة التي شهدت انعقاد القمة العربية الأخيرة، ولكن المدقق في تفاصيل التاريخ الحديث تدهشه حقيقة أن أقطاراً عديدة من الدول المجتمعة في القاعة لم تكتمل بعد بناها كدولة. جميعها حصلت على اعتراف بسيادتها ولكن بعضها إن لم يكن أكثرها ما يزال يعاني وبقسوة أعراض «نقص في الدولة».

* ثانياً: تحديات في مسيرة النظام الإقليمي

لم تكن مسيرة سهلة؛ بل تخللتها صعاب كادت في مرات عديدة تحبطها كلية. كان ولا يزال الوجود الإسرائيلي أحد أسباب الإحباط؛ إذ لم تتمكن الدول العربية من تحقيق تكامل أمني يتناسب والخطر الذي يمثله وجود هذا العدو مع الدعم الغربي المتوفر له.

من التحديات أيضاً الشبه الكبير بين اقتصادات عربية ناشئة؛ الأمر الذي حرم النظام العربي من فرص إقامة تكامل اقتصادي رغم أن عقد السبعينات شهد تنفيذ تجارب تكاملية لا بأس بها وإن اعتمدت في غالبيتها على الفورة الطارئة في عائدات النفط بعد حرب أكتوبر وعلى نخبة ضئيلة العدد من التكامليين والاقتصاديين العرب. ومما لا شك فيه أن التجربة العربية في التكامل افتقرت إلى كثير مما توفر للتجربة الأوروبية من قيادات تكاملية ومن دروس التجربة الناجحة لمجموعة الحديد والصلب كنقطة انطلاق ناجحة.

تزاوجت قبل أن تنفرط عناصر مهمة حققت انطلاقة السبعينات في صنع تجارب تكامل ناجحة.

إذ خلف العمل العسكري الناجح في الحرب ضد إسرائيل، مع الموقف السياسي الاقتصادي للنفط، مع تدفق في مشاعر العقيدة القومية في كافة أنحاء العالم العربي، كل هذا بالإضافة إلى توافر عدد من خيرة الاقتصاديين تحت قيادة مدربة في الجامعة العربية، أرسى أرضية خصبة أقيمت فوقها مشروعات تكاملية حققت نجاحات.

أضف إلى ما سبق، أن قيادات العمل العربي المشترك لم تفلح في تأسيس مدرسة لتسوية النزاعات بين الدول العربية.

* ثالثاً، تحولات في النظام الدولي

كلنا في هذا العالم مقبلون على فترة عصيبة، هي فترة استثنائية بكل الحسابات والمعايير لأنها الفترة التي تستعد فيها الصين كدولة عظمى صاعدة وتستعد معها دول عديدة، كلٌّ بإسهام متواضع، لتجريد الولايات المتحدة كقطب دولي أعظم من أدوات هيمنته، وتحييد إمكانات استمد منها على امتداد عشرات السنين الطاقة اللازمة لممارسة الهيمنة. هناك على الجانب الآخر من الصراع الدائر حالياً والممتد غالباً في الفترة الطويلة القادمة لم يتأخر القطب الأمريكي المتهم بالهيمنة وسوء استغلال سلطاته كقطب أوحد وأعظم، عن تعبئة وحشد إمكانات ضخمة، من بينها ولعله في صدارتها تجييش حلف سياسي عسكري اقتصادي أيديولوجي، ليهدد به أمن وسلامة القطبين الروسي والصيني.

لن يكون هذا السباق، أو التنافس، ناعماً. وبالفعل بدأ خشناً ولئيماً وبشكل من الأشكال وحشياً. لم يخطئ كثيراً أو يبالغ من اعتبر الحرب الناشبة ضد روسيا، تدريباً لحرب أشد وطأة سوف يشنها الأمريكيون بمساعدة بعض دول الغرب ضد الصين لتعود قطباً ثانوياً في هيراركية القيادة الدولية. ليس في ظننا، على كل حال، أننا سوف نكون شهوداً على نظام دولي متعدد الأقطاب. التعددية ليست ولن تكون هدفاً أمريكياً. الهدف، وقد جربته فعلاً وواقعاً الولايات المتحدة، نظام دولي أحادي القطبية، وإن تعذر أو تعثر فنظام دولي ثنائي القطبية، وقد جربته هو الآخر ونجحت التجربة. وإذا اضطرت إلى قبول الصين قطباً ثانياً في نظام ثنائي القطبية فسيكون القبول مشروطاً بخضوع الصين لقواعد عمل النظام الدولي الذي شكلته ووضعت قواعد عمله خلال وفي نهاية الحرب العالمية الثانية. بدون هذا الشرط سوف تنشب حرب باردة ولكن شرسة بين القطبين وسوف تسقط دول وشعوب كضحايا أجواء متناهية العنف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr23xd8b

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"