تونس.. وحاجة أوروبا

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

قبل الحديث عن العلاقات التونسية الأوروبية، علينا أن ننظر في المشهد الإقليمي وتحولاته الاستراتيجية، ويهمنا في هذا السياق، النظر إلى التحولات الكبرى التي تشهدها علاقات القارة الإفريقية بالقوى الدولية والتكتلات الاقتصادية الكبرى.

 ذلك أنّ ثمة واقعاً لا يمكن للغرب أن ينكره، ومراكز الإحصاء الغربية تتابع كل كبيرة وصغيرة في ما يتعلق بتزايد النفوذ الصيني في إفريقيا، فحجم التبادل التجاري بين الصين والقارة السمراء ازداد بنسبة 27 في المئة خلال الثلاثية الأولى فقط، من سنة 2023، ليستقر عند نحو 60 مليار دولار صادرات صينية نحو القارة، فيما قفزت الواردات الصينية من إفريقيا إلى أكثر من 90 مليار دولار. وليس المهم هو الأرقام، بل المجالات التي تمسّها، وأهمها الطاقة والمنتجات الزراعية، حيث أعلن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أن بكين ستفتح «ممرات خضراء» للصادرات الزراعية من إفريقيا إلى بلاده، وستقدّم 10 مليارات دولار لتمويل التجارة لدعم الصادرات في القارة،  فيما بلغ حجم التبادل التجاري الصيني الإفريقي في نهاية سنة 2022، نحو 282 مليار دولار، وهذا الرقم مرشح للارتفاع مع نهاية السنة الجارية، ذلك أن الصين مصرّة على تعزيز نفوذها في القارة من خلال تشبيك العلاقات الاقتصادية، وتنمية الاستثمارات، ما دفع القادة الأفارقة إلى رفع أصواتهم عالياً، ضد النفوذ الغربي في قارّتهم، وضدّ تدخلات الأوروبيين والأمريكيين في اختيار الشركاء المناسبين. والتحولات الجارية تؤكد فعلياً أن الغربيين، خاصة الأوروبيين، يفقدون الكثير من مناطق نفوذهم في إفريقيا لفائدة النفوذ الصيني بدرجة أولى، والروسي بدرجة ثانية.

  ومن هذا المنطلق، فإنّ الأوروبيين يراقبون هذا التمدد الذي يزيحهم عن عروشهم القديمة، وهم في الوقت ذاته منهكون بأزمات اقتصادية عدة، وبأزمات اجتماعية قد تنفجر في أي لحظة نتيجة هذا الوضع المتراكم منذ سنة 2008 حيث عصفت الأزمة المالية بأكبر الاقتصادات الأوروبية. ونتيجة لأزمة جائحة كورونا، ثم تأثيرات الحرب الأوكرانية التي جعلت الاتحاد الأوروبي هو الخاسر الأكبر، سيعمدون إلى محاولة رد فعل من أجل استعادة مواقعهم القديمة، وهنا نراهم يسعون إلى التدخل في ملفين شديدَي الأهمية بالنسبة إليهم، الأول هو الملف الليبي، والثاني هو الملف التونسي، مع اختلاف معطيات وعناصر كل ملف بالنسبة إليهم. وهنا تمثل المسائل الأمنية المتعلقة أساساً بملف الهجرة غير الشرعية، هاجساً خطراً بالنسبة إلى دول جنوب أوروبا، وفي مقدمتها إيطاليا التي تزعمت جهود التفاوض مع تونس، ومحاولة إيجاد حلول مشتركة ترضي الطرفين، ويأتي ملف الطاقة كأحد الملفات المطروحة أوروبياً، بعد خسارة موارد الطاقة الروسية التي مكّنت الأوروبيين من العيش في رفاهية طيلة عقود.

 الأوروبيون يدركون أنهم الآن في منافسة شرسة مع القوى الشرقية، وفي مقدمتها الصين، والحليف الأمريكي لا يقدم لهم شيئاً سوى مزيد من توريطهم في حرب خسارة يتأذى منها المواطن الأوروبي.

 حديث الأوروبيين عن شراكة شاملة، وربما عن شريك متميز من خارج الاتحاد الأوروبي في مرحلة مقبلة، هو مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهم، وهم مستعدون لتقديم كل التنازلات من أجل شراكة مع تونس تؤمّن لهم ملف الهجرة وملف الطاقة. 

 والحقيقة أن الأوروبيين لا يخفون الدفاع عن مصالحهم، فالعلاقات الدولية لا تبنى بالعواطف بل بعقلانية باردة، إن لزم الأمر. وعليه، فإن تونس لديها أوراق كثيرة للمناورة، أولاها أنّها رغم أزمتها الاقتصادية التي يتحمل الغربيون فيها النصيب الأوفر نتيجة مشروعهم ل«الربيع العربي»، ما زالت دولة جاذبة للتنافس الدولي، وعليها أن تحسن التفاوض مع الجميع معززة التعاون مع الشركاء الاقتصاديين التقليديين، من جهة، وفاتحة لأبواب التعاون مع كل القوى الصاعدة خدمة لمصالحها الوطنية قبل كل شيء. وعليها أن تستثمر حاجة الآخرين إليها، وليس حاجتها هي فقط، إلى الآخرين، ومن هنا يأتي مفهوم الشراكة الندية، واستثمار سياسة «تصدير الحدود» الأوروبية، التي استفادت منها تركيا خلال السنوات الماضية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3ff28vx2

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"