وقفات حادة

00:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا تفسير لكثير من ممارسات السياسيين وقراراتهم هذه الأيام، وردود فعلنا، إلا بإقرار أننا جميعاً، سياسيين ومواطنين، نعيش حالة انتقالية طالت، وتمدّدت، وتفشت حتى طغت. لا أحد من علماء العلاقات الدولية، ومن المراقبين، والمعلقين، والمهتمين، إلا وكتب في تبرير أخطاء وزلّات السياسيين بالقول إن العالم ينتقل من نظام دولي إلى نظام دولي جديد لم تتحدد معالمه بعد.

بمعنى آخر، يفترضون أن لا شيء آخر يدفع الحكام، وغيرهم من رجال ونساء السياسة، لاتخاذ ما يتخذون من قرارات ومواقف، وما يمارسون من سياسات، لا شيء إلا أنهم جميعاً مقتنعون، صراحة أو ضمناً، بأن الصراع بين الأقطاب على مواقع في قيادة العالم بدأ فعلاً، وأنه مع هذا البدء صارت جميع النخب الحاكمة والقوى القريبة منها تعتقد أن الفرصة حانت، ويجب ألا تفلت. سمعتها على لسان أكثر من صانع سياسة، وسمعتها تتردد على لسان أكثر من سياسي معارض في أكثر من دولة. لكل فرصته، والكل عازم على حمايتها، ومستعد لبذل ما يملك في سبيلها.، وقفات حادة نعيشها هذه الأيام شهوداً عليها، أو شركاء فيها.. من هذه الوقفات:

أولاً.. «فاغنر» وبوتين

واحد من الاثنين هدد بإضاعة فرصة من أجل فرصة أخرى لاحت له. اشتبكا في صراع سخيف حول تراتبية في السلطة العسكرية، وفي ظل سوء فهم للتطورات المحيطة بهما. ومع ذلك، لم يكن هذا وحده هو جوهر حكاية «فاغنر» وبوتين.. ففي الجوهر عناصر أخرى، مثل طموحات المؤسسات الروسية، وخلافات العسكريين، وخزائن القنابل النووية، والتشوه حين يضرب، وبعنف، ثقافة أمة، والسباق على ثروات إفريقيا تشبّهاً بالغرب، والتخطيط السيئ لحرب أوكرانيا، كلها، وليس التمرد وحده، شكلت جوهر الحكاية، حكاية «فاغنر» وبوتين.

وللجوهر حواش لا يخلو منها أمر له صلة بحال العلاقات بين الكبار. لكل دولة كبيرة، وفي الأغلب لكل دولة صاعدة أو متطلعة، مجمع عسكري اقتصادي. عرفناه على لسان الجنرال أيزنهاور حين قرر ألا يترك الحكم في واشنطن إلا بعد أن يدلي بتحذير للأمة الأمريكية من تهديد هذا المجمع لأمنها، واستقرارها، ورخائها.

ثانياً.. مؤتمر باريس لإصلاح المؤسسات المالية الدولية

انعقد المؤتمر بالغ الأهمية ولم يخلّف أثراً بقدر هذه الأهمية البالغة. أتى المؤتمر متأخراً. وكان يجب، في أحسن الأحوال، أن يأتي في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عامي 2007- 2008، وبنوايا وخطط أطيب. خطورة هذا المؤتمر، من الناحية النظرية على الأقل، أنه قد يتسبب، إن فَشِل أو تباطأ، في تخلّف الجهود الحثيثة المبذولة من أجل تمهيد أرضية القمة الدولية، وهياكل وأبنية النظام الدولي، استعداداً لنظام جديد بقيادة جديدة، وفكر جديد. قالها صراحة غوتيريس، الرجل المكلف رعاية هذه الهياكل والأبنية، بعد أن توصل، من دون أن يفصح، إلى أن الإصلاح جهد ضائع، إنما الحاجة تستدعي نظاماً مختلفاً يعتمد على واقع كاد يختلف جوهرياً عن الواقع الذي تعيش فيه شعوب هذا العالم، بخاصة شعوبه الفقيرة والأكثر عدداً.

يتجاهلون، أو لعلهم يتنكرون لحقيقة أن الحاجة ماسة لوضع قواعد جديدة تنظم الكثير من أنشطة ومؤسسات العمل الدولي في كل المجالات، وليس في قواعد عمل المؤسسات المالية فقط.

ثالثاً.. الهند والصين

أغرقونا بمواد إعلامية وأكاديمية في محاولات جادة لإقناعنا بأن الهند طرف مناسب في منظومة متخيّلة لنظام دولي جديد. المعلومات الحقيقة لا تزال تؤكد أن الهند بعيدة عن أن تتساوى بالصين، أو تقترب منها. سمعت من أكاديمي هندي أحترم علمه ومعلوماته، أن القيادة الهندية، وإن كانت ترحب بالحملة الغربية التي تقودها أمريكا لرفع مكانة الهند المتخيّلة إلى أعلى مما تستحقه، إلا أنها غير قادرة فعلياً، وبإمكانات الهند وظروفها السياسية الراهنة، على أن تحتل مواقع في القيادة الدولية هي غير مؤهلة لها، أو على الأقل، لم تحن الفرصة لها لتفعل ذلك. نعم المنافسة مع الصين على النفوذ في جنوب آسيا ووسطها واجبة، وربما مفروضة عليها، بخاصة في مناطق الحدود الصعبة، ولكن السباق مع الصين يبدأ الآن، وتحت الضغط الأمريكي من مواقع غير متقدمة؛ فالصين بدأت الصعود مبكراً وفي ظروف أفضل. ولا معنى إطلاقاً، لاعتبار الهند في ظروفها الراهنة خصماً للصين، أو متسابقة معها على المستوى نفسه لمجرد أنها تجاوزت ذات يوم، في الشهور الأخيرة، بمولود جديد عدد سكان الصين. المنافسة في المرحلة الراهنة غير مبررة، بل ضارّة بشعبي الطرفين، وقد حذر من الوقوع في فخها «لي كوان يو» القائد القوي الذي صنع من سنغافورة لؤلؤة التقدم والتحضر معاً، في جنوب آسيا في وقت مبكر. أعرف الكثير أو القليل عن الهند، وأعرف الكثير أو القليل عن الصين. أتمنى لكليهما مواصلة طريق الصعود، ولكل منهما الإمكانات التي تؤهله لموقع مرتفع، ولكني أرى الازدهار إن سلكا طرق الصعود بعيداً عن ضغوط وإيحاءات الأحلاف العسكرية والسياسية، بخاصة تلك التي تنجر إليها الهند جراً مع أستراليا واليابان؛ فللمنافسة مع الصين ثمن يمكن أن يلتهم عائد الإنجاز في كل نواحي التقدم والصعود. ولا شك عندي في أن استمرار تحفيز الهند والصين على تصعيد وتسريع المنافسة بينهما خدمة لأهداف نظام دولي تحت الصنع، سيأتي على حساب السلام في آسيا ورخاء وسرعة اندماج كل شعب من الشعبين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/33mxktxy

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"