أمريكا اللاتينية والانحياز الحذر

00:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

يتميّز تاريخ أمريكا اللاتينية الحديث والمعاصر، بكثير من التداخل والتعقيد، ويصفه الباحث برتراند بادي في قاموسه السياسي، بالقول إنه تجسيد لتاريخ اليتم، نظراً لارتباط دول القارة بأحد الأبوين الاستعماريين المتصلين بالاستعمار الإسباني، أو البرتغالي، في حالة البرازيل وبالجار المهيمن في أمريكا الشمالية، وهو تاريخ يغفل، بشكل كبير، روابط الأمومة التي تجمع هذه الدول بثقافة وحضارة السكان الأصليين. 

 وتعتبر دول أمريكا اللاتينية أقرب ما تكون إلى نموذج الدول المحيطية الشديدة التأثر بالمركز، بخاصة أن نمط الدولة الأوروبية المستنسخ على طريقة نظام الحكم غير المستقر في شبه الجزيرة الإيبيرية، ما زال يمارس تأثيراً واضحاً في نسق تشكيل السلطة السياسية في مجموع دول القارة.

 ومن الواضح أن نظام الفصل الطبقي الذي وضعه الاستعمار الإسباني خلال القرون الماضية، مازال له تأثير حاسم في واقع القارة التي يعاني مواطنوها فوارق اجتماعية صارخة، لا تسهم في استقرار دول أمريكا اللاتينية نتيجة ما يصفه برتراند بادي ب«الأبرتايد الذهني المتجذر في مجتمعات متعدّدة الأعراق»، الأمر الذي يؤثر بشكل واضح  في أسلوب ممارسة المواطنة الديمقراطية في هذه الدول، بخاصة أنها خضعت خلال القرن التاسع عشر، مباشرة بعد التخلص من الاستعمار، إلى هيمنة شبه مطلقة للأوليغارشية التي قامت بخصخصة مؤسسات الدولة لمصلحتها.

 وبالتالي، فإن ما حدث بعد ذلك من هيمنة كبيرة على دول القارة من طرف الولايات المتحدة وشركاتها متعددة الجنسيات طيلة النصف الأول من القرن العشرين، بات له دور واضح في توجيه سياسات القارة التي حاولت دولها، خلال العقود الأخيرة، أن تتخلص، بدرجات متفاوتة، من الوصاية الأمريكية، لاسيما خلال سنوات حكم اليسار؛ حيث اختارت دول أمريكا اللاتينية سياسة عدم الانحياز في زمن الحرب الباردة، وترفض حالياً أن تنضم للغرب في مساعيه الهادفة إلى تقليص التعامل مع الصين، وإلى حصار روسيا وفرض عقوبات عليها، وقد بدا ذلك جلياً في تصريحات الرئيس البرازيلي، لولا داسيلفا، الذي قال: «على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتوقف عن دعمها للحرب في الوقت الذي تتحدث فيه عن السلام»، في سياق المواقف التي عبّر عنها الرئيس البرازيلي بشأن الحرب في أوكرانيا، منذ تسلمه للسلطة في بلاده.

 نستطيع القول إن دول أمريكا اللاتينية تتبنى، في مجملها، سياسة خارجية قائمة على عدم الانحياز، باستثناء دول، مثل كوبا وفنزويلا، اللتين اختارتا سياسة معادية للغرب وداعمة لروسيا بشكل مباشر، وكولومبيا التي ما زالت تمثل أبرز الدول الداعمة لواشنطن في القارة؛ وهناك في المرحلة الحالية دولتان محوريتان في القارة، تسعيان إلى رسم معالم سياسة خارجية مستقلة ومتوا زنة هما البرازيل والأرجنتين، فقد عملت هذه الأخيرة على التقارب مع موسكو قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، ولم تؤثر الحرب في هذا التقارب إلا بشكل بسيط نظراً لسعي بوينس آيرس للتخلص من هيمنة الدولار على اقتصادها بسبب ضغط المديونية، الأمر الذي دفعها مؤخراً، إلى تسديد قسط من دينها العام بالعملة الصينية، ومن ثم فإن هناك قناعة واضحة لدى النخب الأرجنتينية بضرورة تنويع الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية، وحتى العسكرية، من أجل الإسهام في إقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب.

  وتظل البرازيل في المرحلة الراهنة قاطرة أمريكا الجنوبية التي لها القدرة على دفع باقي شركائها الإقليميين لإقامة علاقة قوية مع الصين وروسيا. وليس من باب الصدفة أن تكون البرازيل إحدى أبرز الدول المؤسِّسة لمجموعة «البريكس» التي تجاوز ناتجها الداخلي الخام في السنة الماضية الناتج الداخلي للدول الصناعية السبع الكبرى، ويطمح الرئيس البرازيلي، لولا، إلى تحويل دول الجنوب إلى قوة توازن كبرى في العلاقات الدولية، قادرة على الاستفادة من الصراع بين الشرق والغرب لمصلحة شعوبها.

 هناك إذن، في أمريكا اللاتينية تحديات داخلية وخارجية، تجد دول القارة نفسها مجبرة على مواجهتها، فعلى المستوى الداخلي تعمل على التخلص من نمط حكم بيروقراطي متسلط مازال بحاجة ماسة إلى ترسيخ قيم المواطنة، بعيداً عن المرجعيات العرقية المتصارعة، وتحاول على المستوى الخارجي التمسّك بخيار عدم الانحياز الذي ما فتئ يتجه نحو شكل من أشكال الانحياز الحذر نحو الشرق، مع وجود رغبة واضحة في تشكيل قطب ثالث لدول الجنوب بزعامة البرازيل والهند.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4334sm9b

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"