الشاعر والصمت

22:47 مساء
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

يقف الشّاعر في صفّ الحياة، يعطّل حركة الزمن، ينتظر وقتاً طويلاً من أجل العبور، يتعرّض لسؤال الطريق المربكة، وهي تقول: من أين أتيت، ومن أنت؟!، فيلوذ بالصّمت والانكسار، ثمّ يواصل الصعود إلى قمة الشموخ، حاملاً في ذاته طموحه العالي، يعدّ أصابعه وكأنها أبناؤه الذين ينتظرون عودته بقميص تشرق معه آمالهم .

يرسل الشاعر قصيدته صارخةً إلى الوديان، وتمطر في سطوره حكاياته، لكنّ الصّدى لا يعود إليه، وكأنّ الكون أمامه فضاء تلاشت فيه أنّاته، لتصعد من دون هدى تاركةً نبضه في السّفوح.

حين يلوذ الشاعر بالصّمت، فإنه يعتزل الكون الذي لا يستمع إليه، لكنه يطرق بوجعه الليل، فتنفتّح له أبواب معلّقة بالنجوم، فيطلق نحوها صرخة القصيدة وهو صامت، وكأنّه حين يقف أمام الأفق، يقول كما قال المتنبّي :

وفي النَّفْسِ حاجاتٌ وفيكَ فَطانَةٌ

سُكوتي بَيانٌ عِنْدَها وخِطابُ

وعلى الرّغم من أنّ الشاعر يحمل في صدره بحراً من الكلمات، وتسيل من أصابعه المعاني، وتمطر في سطوره العبارات، فإنه يصمت خجلاً أمام هيبة جبل، ويتلعثم حرفه أمام نهرٍ معطاء، ويصارع جيشاً كاسراً من الخجل أمام هيبة رجل، لكنه حين يعود إلى ذاته، يعود إليه بأسه المتسلّح بالندم، فتنطلق حروفه في مضمار القصيدة، ويبوح لنفسه بحسرة، ويتألّم داخله الذي لا يسمعه إلّا الشعر، يرى من حوله الطيور تروح بطاناً وهو يعود خماصاً، يراها تشرب من الضّفاف وهو يشرب من الدّمع، تجد لها أغصاناً للسّكن، ووطناً للتغريد، وهو يسكن تحت سقف السّكوت، وسماء التردّد، تتوزّع من حوله الهبات، وهو على دمعته يسامر السُّبات.

الشاعر حين يسقط دمعته على صمته، تثمر فاكهةً في جديدِه، وحين يسقطها أمام الآخرين، تنبتُ حنظلةً في وريدِه، ولذلك يجني من السّكوت الضياع، ومن خلوته مع ذاته شعراً محلّقاً تطيب له الأسماع، يرسله برّاقاً علّه يصل إلى سدرة مبتغاه، وبينهما تبقى الحكايات منتظرة على شارعٍ لا يعترف إلّا بأصواتٍ لا تتوجّس من العيون التي تحيط بشموخ الجبل، فتصعد إلى القمة على صهوة الكلمة .

الشاعر هو ذاته رغم سكونه في عتمة البئر، يبحث عن طمأنينة القلب والروح، ينادي على حروفه التي تشبهه ويشبهها، ينظر من شرفة الحياة فيرى كيف عانده الحظ وكيف أسعد غيره، فيراقب الوقت والأيام ولا يغرق إلا في خجله، رغم أنه راض بقدره.. هكذا تمضي به الحياة فلا يعرف هل الحزن أم الفرح الذي يسكنه الآن؟ وهل هو حقاً مرئي أم خفي في ظل العثرات وتراكم الأسى وما يفوق طاقته في الصبر والاحتمال.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/42mjbntp

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"