تفاقم أزمة الدين في العالم

00:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

العلاقة التاريخية بين الإنسان والتكنولوجيا، تجسدت وظهرت مع الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية بدرجات متفاوتة، وفق حاجة السوق مع انتشار الرأسمالية وتغولها. أما الثورة التكنولوجية، فقد أثمرت الشركات الكبرى العابرة للقارات التي تفوق قيمتها السوقية ميزانيات العديد من دول العالم، وأصبحت المصالح تقود الاحتياجات المادية والسياسية في بعض الأحيان، الأمر الذي دفع بعض الدول إلى التمرد على القيم، خضوعاً للاحتياجات الصناعية التكنولوجية.

ولم يكن الاتجاه نحو التحديث في مختلف المجتمعات خياراً، بل كان اتجاهاً إجبارياً لمجاراة ما يحدث في العالم من جراء مفرزات الثورة الصناعية في أوروبا التي أدت إلى ظهور معالم الحياة الحديثة بفضل النهضة الصناعية، وهذه الوسائل تتطلب إقامة مشاريع باهظة الكلفة لتحقيقها، وهذا ليس أمراً سهلاً على الدول الفقيرة التي لا تملك موارد كافية لإعالة شعوبها، لكنها وجدت نفسها مضطرة إلى إقامة تلك المشاريع، حتى تواكب ركب التطور، ما تطلب إقامة محطات حرارية أو مائية أو مفاعلات نووية، وتمديد الشبكات الكهربية، وإقامة أعمدة التوتر العالي، وتوصيل الشبكة إلى كل مدينة وقرية، هذا إضافة إلى إقامة بنية تحتية قوية.

ولما كانت تلك المشاريع وأمثالها تتطلب كلفات ضخمة، الأمر الذي دفع الكثير من الدول الفقيرة إلى الاقتراض من شركات الإقراض الدولية الأمريكية، من أجل بناء بنية تحتية متكاملة فيها، وهو ما أوقعها في فخ الديون، ذلك أن المشاريع التي أقامتها تلك الدول لم تكن بهدف الربح، بل من أجل تحقيق التنمية للشعوب، فمثلاً، مهما جمعت دولة معينة من فواتير كهرباء من شعبها، فإنها لن تتمكن من تسديد دينها للشركات المقرضة من تلك الفواتير، لأن الدولة ليست شركة خاصة تسعى إلى تحقيق الربح، بل تعمل أولاً وأخيراً على خدمة شعبها، وما ينطبق على مشاريع الكهرباء ينطبق أيضاً على غيرها مثل: مشاريع الطيران والمطارات والسكك الحديدية والطرق التي تربط بين المدن، وغير ذلك الكثير من مشاريع البني التحتية. كل ذلك رتّب ديوناً باهظة على الكثير من الدول في العالم النامي.

ووفق تقرير صدر مؤخراً بعنوان (عالم من الديون)، أعدته مجموعة الأمم المتحدة للاستجابة للأزمات العالمية، فإن نصف البشر في الأرض يعيشون في بلدان مجبرة على الإنفاق على خدمة الدين أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم، وهو ما يجعل نصف العالم يغرق في كارثة تنموية. وأشار التقرير إلى أن أكثر من 3 مليارات شخص في العالم يعانون بسبب وضع حكومات بلدانهم سداد فوائد الدين كأولوية بدلاً من الاستثمارات الأساسية في أهداف التنمية المستدامة، أو التحول في مجال الطاقة. وتعاني 52 دولة، أي ما يعادل 40% من الدول النامية في العالم، مشكلة دين خطيرة. ووفق التقرير، فإن الدين العام وصل في العام الماضي إلى رقم قياسي بلغ 92 تريليون دولار، تتحمل منه الدول النامية 30%، وهو عبء غير متساوٍ. ويوم الاثنين الماضي عُقد اجتماع لدول مجموعة السبع في الهند، بهدف تخفيف عبء ديون البلدان النامية وإصلاحات مصرفية، وتخفيف الضرائب المفروضة.

والواقع أن ديون الدول الفقيرة قد ألحقت خسائر كبيرة بشركات الإقراض الدولية الكبيرة التي تتبع الولايات المتحدة، ما ساهم في تفاقم الديون التي تعانيها أمريكا، والتي هي في الأساس ناجمة عن التدخلات العسكرية، مثل التدخل في الحرب العالمية الثانية، وما تلا ذلك من إطلاق مشروع «مارشال» لإعادة بناء دول أوروبا بعد الحرب، وتلا ذلك الدخول في صراع تكنولوجي عسكري ومدني مع الاتحاد السوفيتي السابق، والذي فاقم من الدين الأمريكي، حتى اضطر الرئيس الأسبق نيكسون إلى إلغاء قاعدة «تقويم الدولار بالذهب»، وتمت طباعة أوراق نقدية لا تغطية ذهبية لها، وأيضاً القيام بحروب متكررة؛ مثل: حرب فيتنام، وحرب أفغانستان، ومن ثم حرب العراق، ما جعل الولايات المتحدة اليوم تتربع على قمة الدول المدينة في العالم بأكثر من 30 تريليون دولار، وتليها الدول الحليفة لها في أوروبا والشرق الأقصى، وهذه الدول تدفع ثمن علاقاتها الاقتصادية القوية مع الولايات المتحدة. لكنها غير قادرة الآن على الابتعاد عنها، بل هي بين أمرين: إما أن تنجح الولايات المتحدة في الخلاص من ديونها، وهو أمر شبه مستحيل، وهذا سيفتح طريق أمان لتلك الدول، وإما أن تعلن الولايات المتحدة إفلاسها وتأخذ معها تلك الدول إلى الهاوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4pkcxj9d

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"