إفريقيا.. الثروة والدم

00:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

غينيا، وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى ومالي والسودان وأخيراً وليس آخراً النيجر، انقلابات عسكرية يقودها شباب من الضباط العسكريين، يشتركون في عدائهم للغرب عموماً، ولفرنسا على وجه الخصوص، ويعلنون تحالفات استراتيجية جديدة مع عدو الغرب الأول؛ وهو روسيا. فهل هي مجرّد حركات معزولة أم أنها إعلان عن تحولات جديدة في قارّة تتنازعها صراعات الثروة والدم؟

هذه الانقلابات تعيد القارة الغنية إلى زمن الانقلابات العسكرية والصراعات الدموية في عقود السبعينات والثمانينات من القرن الماضي والتي كانت تعبر عن ثورات، وثورات مضادة تقودها المخابرات الغربية من أجل تنصيب حكام يرعون مصالحها، ويحافظون على تدفق المواد الثمينة من مناجم إفريقيا الغنية إلى خزائن الدول الأوروبية والشركات العابرة للقارات. وقد نجحت الدول الغربية في فرض نوع جديد من الاستعمار غير المباشر الذي ضمن لها استدامة مصالحها على مدى عقود من الزمان، مقابل فُتات اقتصادي، تتحكم فيها منظومة اقتصادية ومالية، فرضتها فرنسا خاصة على مستعمراتها القديمة. غير أن هذا الوضع لم يعد مسموحاً به، فهناك شباب متعلم ومتحكم في التكنولوجيا، ويؤمن بقدرات إفريقيا على الخروج من موقع القارة المستضعفة، وهذه الرؤية قديمة نسبياً، لكنها لم تنجح في تحقيق الاستقلال الإفريقي التام. وهنا نذكر محاولات الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر وقادة أفارقة من أجل التحرر التام من نير الاستعمار، واستثمار موارد القارة من طرف أبنائها. ولقد نجح عبد الناصر في الإسهام في حركة التحرر الإفريقي، وإذا كان عدد الدول المحررة قبل قيام ثورة 23 يوليو/ تموز هو 4 دول فقط، فإنه بفضل الجهود المصرية، أصبحت 30 دولة في عام 1963، شكلت نواة منظمة الوحدة الإفريقية التي اتخذت من أديس أبابا مقراً لها. هذا النفس التحرري يعود اليوم وبقوة في بعض الدول الإفريقية التي تعلن صراحة عدم رغبتها في استمرار سياسة الوصاية الفرنسية والأوروبية على القارة السمراء. فقبل أسابيع قليلة وقعت مشادة بين رئيس الكونغو والرئيس الفرنسي ماكرون خلال مؤتمر صحفي؛ حيث قال موجهاً خطابه لماكرون: «يجب أن تتغير طريقة التعاون بين فرنسا وأوروبا عامة والكونغو الديمقراطية.. انظروا إلينا بطريقة أخرى باحترام كشريك حقيقي، وليس بنظرة أبوية وإملاءات».

 ولا يختلف موقف رئيس حكومة مالي عن هذا الرأي حينما قال: إنه «يميز بوضوح بين الشعب الفرنسي والسلطات الفرنسية الحالية التي لها حنين إلى الظلامية، والعودة إلى الممارسات الاستعمارية، المتعالية والأبوية الانتقامية». والحقيقة أن نبرة التمرد على الوصاية الأوروبية تجد رواجاً لها لدى الشعوب الإفريقية التي باتت أكثر تعلماً وانفتاحاً ودفاعاً عن موارد القارة الغنية. وعلى هذا الأساس، تجد هذه الانقلابات العسكرية قبولاً شعبياً، خاصة عندما يقع الإعلان عن طرد بعثة أوروبية. غير أن هذا الوضع ينبئ بأن الصراع على القارة الغنية، بلغ مرحلة شديدة الخطورة؛ فإعلان التمرد على الوصاية الاستعمارية لن يُقبل في دوائر القرار الغربية، وسيتم العمل على خلق نزاعات دموية، لأن الثروات الكبرى في إفريقيا، تستوجب صراعاً بحجم أهميتها، هذا أولاً، وثانياً لأن التمرد على الغرب يتزامن مع ميل إفريقي لمحور روسيا- الصين، الجاذب للشعوب الإفريقية تقليدياً وواقعياً من خلال مساعدات ضخمة مالية وعسكرية وغذائية ومن خلال استثمارات تحقق نسب نمو قوية. ومن الطبيعي ألا يترك أصحاب المصالح القديمة مواقعهم لحلفاء إفريقيا الجدد هكذا وبصفة مجانية. إن الانقلابات، والانقلابات المضادة، ستكون عنوان مرحلة جديدة في إفريقيا، وستؤذي هذه الصراعات الملايين من الأشخاص الذين سيجنحون للنزوح والهجرة، بحثاً عن مواقع أكثر أمناً.

أوروبا عليها أن تعلم أن رعاية مصالحها في إفريقيا لا يجب أن تتم على حساب مصالح المواطنين الأفارقة، وكفى الأوروبيين ذلك العهد من الوصاية، ونهب خيرات إفريقيا. صور تمزيق العلم الفرنسي وحرقه ليست إلا جزءاً صغيراً من إرث كريه تركه الأوروبيون في إفريقيا. غير أن القارة عليها أن تنتبه أيضاً إلى أن الاستقلال التام والتحرر الشامل، يجب أن يضمن أيضاً سيادة القارة، وعدم ارتمائها في أحضان وصاية جديدة، لأن ذلك سيعني إعادة إنتاج الصراعات الدموية على الثروة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2kuzzswf

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"