الغربة.. رحلة الشعراء

23:14 مساء
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

رحلة الشعراء مع الغربة لا تنتهي في كل زمان ومكان، فهي بين المتخيّلة التي يحتاج إليها الشاعر بإرادته لتكون وقود مشاعره، وبين الواقعيّة التي تثقله بالألم والاحتراق، وكلتا الغربتين تهيئ للشاعر متكأً لقصيدته، وتمنحه شجناً يتسلل إلى النفوس كما تتسلل روائح العود والبخور وشذى الزهور، فالشاعر طائرٌ يحبُّ التحليق ويعشق المطارات، موزّعٌ بين الصخب والضجيج، والملل والرتابة، حياته مليئةٌ بالثنائيات، حليمٌ ومتهوّر، عاقلٌ ومجنون، منتصرٌ ومهزوم، وبين كل هذا لا يجد الهدوء، لكن روحه المتعبة تحتاج إلى غصن حقيقيّ يأوي إليه بعد كل رحلةٍ مع القصيدة، يحتاج إلى حاضنة تمنح صوته هويّةً، وتنسبه إلى البقاء، تُهدي روحه المتعبة السكينة، وتعطي جسده المنهك مساحةً يسند فيها أضلاعه، فهو في خلوته يحرق مدمعه، ويشرب من سكوته، ويتغذى على انكساراته، وينام على طموحٍ قد يصل إليه وقد لا يصل، ويحضن أرصفة اللوعة التي تشهق فرحاً من وجوده، ولا يجد إلا طائراً يحلّق حوله ويسأله: من سيحضن أضلعك؟ هي رحلته التي يريدها اختياريّاً أن تستمر لكي يتجدّد، ويريد لها أن تستقر لكي يهدأ، وبين الحالتين تكون الغرابة، فماذا يريد؟ في الغربة يحمل الشاعر معه التعب والخوف والقلق، وعدم الاستقرار، وفي الاستقرار إن وجد، يتطلع إلى ماء القصيدة ولا يريده أن يتوقف، بل يريده أن يمر على الأحجار والصخور، ويجرف عن الوديان طينها المتحجر، لتنبت على ضفافها الأشجار، وتغرد على أغصانها الأطيار، فماذا يريد الشاعر؟ إنها أسئلة محيرة، وتشظٍّ تتعدد دلالاته، وأفق لا ينتهي، ربما يريد أن تتفرق قصائده بين المساحات، لكنه لا يريد أن ينتهي كما انتهى «الملك الضليل» بعيداً عن حاضنته، فقال: أجارتنا إنا غريبان هاهنا، وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ، ولا كنخلة عبدالرحمن الداخل في الأندلس حين شبه غربته بغربتها عن الرصافة وخاطبها بقوله: نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ فمثلكِ في الإقصاء والمُنتأَى مِثليْ، بل يريدها «حلباً» أخرى كالتي رسمها «أبو المحسّد» في مخيّلته ولم يجدها، تضم شتاته، وتحفظ شعره وتنتسب إليها تجليّاته، يريد لها من يقول له: تشكو الشتات وأنت بمعيّتي؟! فهل بلغ الآفاق نداه؟ أم أن المدى مثقلٌ بالضجيج الذي يمنعه من سماع صوت الحروف وشدوها وشجنها، لتبقى الرحلة مع الغربة مستمرة، وحالة الوجد غير مستقرة. هكذا هو حال الشاعر مع غربته، فهي ملازمة له ورفيقته منذ أبجديات القصيدة، وستبقى معه، فمن الذي سيمنحه أكسجين الأمل لتتنفس رئة قصيدته، ومن الذي سيفهم ما يريده؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2n3zfr9e

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"