الغرب و«الناتو» الاقتصادي

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

يعيش الغرب بقيادة الولايات المتحدة على وقع خطاب دعائي يعود بنا القهقرى إلى مرحلة الحرب الباردة في سياق الاستقطاب الحاد بين المعسكرين الشرقي والغربي، وقد حاول الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أن يستبدل الثنائية التي قسّمت العالم إلى رأسمالية ليبرالية وإلى شيوعية شمولية، بثنائيات قادرة على مواكبة المرحلة مثل محوري الخير والشر من جهة والدول الديمقراطية والاستبدادية من جهة أخرى. 

 ويتوقع المراقبون أن يزداد هذا الفرز القائم على الثنائيات الإيديولوجية والمعيارية تشدداً، لينتقل من السياقات السياسية والعسكرية إلى سياقات اقتصادية ومجتمعية من شأنها أن تفاقم منسوب المواجهة والصراع وعدم الاستقرار، وبخاصة بعد أن بدأ مفهوم وخيار «الناتو الاقتصادي» في التبلور والانتشار انطلاقاً ممّا تسميه النخب الغربية بالقيم الغربية الليبرالية القائمة على «الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان» في مواجهة ما يدّعون أنه انتشار غير مسبوق «للشمولية والاستبداد».

 وتقول ماري هولزمان، إحدى المتخصصات في الشؤون الصينية والمروّجة لفكرة الناتو الاقتصادي: «إن الديمقراطية تواجه مشقة كبرى في كل أنحاء العالم على الرغم من أن مقاومة أوكرانيا للعدوان الروسي يشهد على صمودها»، وكأن أوكرانيا التي تعترف كل الدول الغربية بأنها دولة ينخرها الفساد، تحولت فجأة وبقدرة قادر إلى قلعة للديمقراطية والشفافية والحكم الراشد، وتضيف ماري، الملاحظون يراقبون عن قرب تطور الصين ويعتبرون أن بكين تعتبر أحد أهم الأسباب التي تقف وراء ظاهرة أفول الديمقراطية في العالم، وتقصد بشكل مباشر أنها مسؤولة عن تراجع تأثير القيم الغربية في مناطق عديدة من المعمورة، كونها توفّر للكثير من دول العالم بديلاً فعّالاً لتحقيق التنمية المستدامة بعيداً عن النموذج الغربي القائم على الهيمنة، وتكمن الخطورة، بناء على تحليلها للوضع الدولي، في أن تأثير الصين تجاوز دول العالم الثالث وبات يمتد إلى العديد من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية وإلى دول ظلت لعقود طويلة محسوبة على المعسكر الغربي.

 وقد دفعت هذه التطورات الدراماتيكية في نظر الغرب، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تراس أثناء زيارتها لتايوان في شهر مايو/أيار الماضي، إلى الدعوة لإنشاء ناتو اقتصادي يهدف إلى تنسيق المقاومة في مواجهة الصين التي تسعى إلى توظيف كل الإمكانيات على المستويين الداخلي والخارجي من أجل تحقيق أهدافها، لاسيما أن بكين تدير بكفاءة، حتى الآن، سلاح الاقتصاد في مواجهتها لخصومها؛ وتشير هذه الدعوة إلى أن بريطانيا ما زالت تنظر إلى نفسها على أنها المسؤولة الأولى، من خلال امتدادات العرش البريطاني، عن بقاء هيمنة المنظومة الأنجلوساكسونية على العالم في سياق تكتل «العيون الخمسة».

 وبالتالي فإنه وبعد بروز بوادر التصدع في التحالف الغربي نتيجة لحرمان فرنسا من صفقة الغواصات مع أستراليا، ومحاولة واشنطن منافسة باريس في بيع طائراتها الحربية لليونان، وما نتج عن كل ذلك من إعلان فرنسا عن رغبتها في توطيد علاقاتها مع الصين ومجموعة البريكس؛ جاءت الزيارة الأخيرة لملك بريطانيا إلى باريس لمحاولة استرضائها بغرض رأب الصدع داخل البيت الغربي، وثني فرنسا عن مواصلة مساعيها لتأسيس تحالف أوروبي يطالب بالاستقلالية الاستراتيجية للقارة العجوز.

 ومن الواضح أن شعار الناتو الاقتصادي ينسجم إلى حد بعيد، مع مطالبة الحلف الأطلسي لأعضائه بالتحوّل إلى اقتصاد الحرب من أجل تطوير الصناعات الدفاعية ومضاعفة إنتاج الذخائر لتزويد أوكرانيا بحاجياتها، والاستعداد من ثم للدخول في معركة مباشرة مع روسيا أو حتى مع الصين في حال إقدام بكين على غزو تايوان، كما تحاول الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا، إحكام حصارها الاقتصادي على روسيا وتهدّد كل الشركات الأوروبية التي تصدّر تجهيزات حساسة، قابلة للاستعمال في صناعة الدرونات والصواريخ، بعقوبات قاسية.

 يمكننا أن نخلص في الأخير إلى أن تحوّل المواجهة الجيوسياسية بين الغرب والشرق إلى مواجهة اقتصادية وربما مجتمعية من شأنه، أن يزيد من خطورة الاستقطاب على المستوى الدولي، وقد يؤدي ذلك إلى تشديد الضغوط على الدول الصاعدة لإجبارها على الانحياز بشكل مباشر ودون مواربة للمشروع الغربي، الأمر الذي يزيد من مخاطر نشوب مواجهة شاملة في العالم ومن إمكانية انهيار منظومة العلاقات الدولية القائمة على احترام خيارات الشعوب وسيادة الدول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yskux9y6

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"