ماضي الدول ومستقبلها

00:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

يقال إن الذاكرة هي مستقبل الماضي من حيث أنه يصبح بفضلها مؤثراً وفاعلاً في الحاضر، وقادراً على رسم معالم المستقبل، ويمكنه مساعدة الشعوب على تحقيق طموحاتها، وهناك من الناحية النظرية والمنهجية ارتباط وثيق بين هذه المجموعة من المفاهيم: الماضي والحاضر والمستقل، إضافة إلى الذاكرة والتاريخ؛ ولكنه ارتباط يعتمد على توازنات دقيقة كيلا يؤدي الماضي إلى إعاقة حركية الحاضر، وإلى طمس ملامح المستقبل من جهة، وحتى لا يقود التمسك بتجليات الحاضر وحلم المستقبل إلى استبداد ينجم عنه الانسلاخ عن كل منجزات الماضي.

إن ماضي الإنسانية، كما يقول هوبير فدرين، في قاموسه الجيوسياسي، هو من الثقل بحيث أنه لا يمضي، فمن جهة نحن نريد الارتباط به حتى لا تجرفنا الأحداث، ونفقد قدرتنا على التحكّم فيها، إذ تحافظ الأمم على صلتها بأديانها وعقائدها الراسخة في القدم، بل إن بعض معتنقيها يجعلون منها منهاجاً سياسياً، وأحياناً خططاً لإدارة المعارك اليومية، وهناك أيضاً دول يلعب فيها الماضي دوراً محورياً، مثل الصين وروسيا وصربيا وإسرائيل، إضافة إلى دول يتم فيها نقل الماضي وتوظيفه، بل وإعطاؤه أبعاداً غير واقعية، ومبالغاً فيها بالنسبة لأحداث بعينها؛ لاسيما وأنه من دون معرفة الماضي وتسلسل الوقائع لا يمكننا أن نفهم ما يقع من حولنا في هذا العالم المضطرب، والمعقد.

من جهة أخرى، نحن نحلم بأن نتخلص من إحباطات الماضي، ومن هيمنته التي تمتد لعهود سحيقة تذكرنا بإنسان الكهوف، في زمن نصبو فيه إلى تشكيل إنسان جديد، وتراودنا رغبة جامحة لاستئصال من نشعر بأنه غير قابل للإصلاح من منطلق أن الإيمان بالتقدم يفترض أن ما يحدث الآن هو حتماً أفضل من السابق، وسيكون غداً أيضاً أفضل بكثير، بناء على منطق الموضة والعولمة؛ ويذهب فدرين إلى إنه على مستوى العلاقات الدولية والمقاربات الجيوسياسية، هناك دائماً مواجهة بين القوى المحافظة، وتلك التي تطالب بالتجديد والتغيير، وهذا ما يبدو واضحاً في النقاشات المتعلقة بالذاكرة، كأنه بات محكوماً علينا أن نقبض على جانبي البندول المتحرِّك في الاتجاهين.

نلاحظ في السياق نفسه، أن الدول والأمم تعيش على وقع ما يمكن تسميته بسياسات الذاكرة وسياسات التاريخ في سياق إشكالية حضارية أوسع تتعلق بالهويات الفردية والجماعية، هويات تستند إلى الذاكرة والتاريخ والتجارب المشتركة للأمم، حيث تُطرح في هذا السياق نقاشات تتعلق بتفاصيل وجزئيات التاريخ عندما يلجأ البعض إلى المطالبة بمراجعة بعض الأحداث التي ما زالت تؤثر في الحاضر؛ وهنا نواجه مفارقة فريدة من نوعها عندما يرفض البعض مراجعة أحداث التاريخ، ويعتبرها طمساً للذاكرة في ملف بعينه، ويسمح لنفسه بالمطالبة بالمراجعة ذاتها، وينتقد المتمسكين بجراحات الذاكرة.

نجد ذلك يحدث، على سبيل المثال لا الحصر، مع النخب السياسية الفرنسية التي تهاجم بشراسة كل مراجعة تتعلق بالهولوكوست، وتعتبر المراجعة تحريفاً للتاريخ وتشويها لذاكرة الضحايا، وتدعو في اللحظة نفسها إلى تجاوز ملف الذاكرة والنظر إلى المستقبل عندما يتعلق الأمر بحرب التحرير في الجزائر، وتتهم سلطات هذا البلد بأنها توظف لمصلحتها ما تسميه «ريع الذاكرة»، وتطالب بالمراجعة من أجل المساواة بين الضحية والجلاد.

من الواضح أن الماضي، كما يقول فولكنر، لم يمت، وأن الدول تجد نفسها بحاجة للتاريخ لترسيخ تراثها وهويتها، لذلك فقد سعت الدول القومية في أوروبا، وبخاصة بعد تأسيس «المدرسة الجمهورية»، أي نظام التعليم العام الإجباري والمجاني من طرف جول فيري، إلى توظيف المدرسة لتحقيق هدفين رئيسيين: تعميم اللسان الوطني على مختلف مقاطعات الدولة، وتدريس التاريخ الرسمي الذي يهدف إلى ربط الأجيال الصاعدة بقيم وثقافة وذاكرة الأمة، من أجل ضمان تمسّك المجتمع والمواطنين بهوية الدولة الوطنية؛ لأن هذه الهوية هي التي ترسِّخ وحدة الشعوب وتضمن دفاعها عن وحدتها الوطنية، رغم الاختلافات العرقية والعقائدية داخل الدولة الواحدة.

وعليه، فإن التحدي الأكبر بالنسبة إلى الدول يكمُن في الحفاظ على الماضي المشترك الذي يصون الذاكرة الجماعية التي تمارس دوراً محوريا في تماسك النسيج المجتمعي من جهة، وفي رفض الانغلاق داخل أسوار الماضي، وجعله منفتحاً على تطورات الراهن وفاعلاً إيجابياً في صنع المستقبل، من جهة ثانية، مصداقاً للقول الدارج: الحاضر غرس الماضي، والمستقبل جني الحاضر، والتاريخ سجلّ الزمن لحياة الشعوب والأشخاص والأمم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yp7r9kd8

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"