النظام العالمي الجديد

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

بينما تتعالى أصوات الابتهاج بأن الديمقراطية الرأسمالية الليبرالية هي آخر الأيديولوجيات التي سينطلق منها ويرتكز عليها النظام العالمي الجديد، نرى أصواتاً، وإن كانت خافتة التأثير، تُحذر من خطورة المذاهب الأيديولوجية، الماركسية والليبرالية، على مستقبل البشرية؛ نظراً لمخالفتها روح الحضارة الإنسانية، بكل معنى من معانيها، ومجافاتها لأبسط المبادئ الاقتصادية السلمية. فقد تسببت التجارب الرأسمالية في شل قوى الأمم، حيث إنها تقضي على كل معاني العدالة والحرية التي تزعم أنها تنادي بها. وهذا ما شدد عليه الرئيس الروسي بوتين، الأسبوع الماضي، على أن مهمة بلاده تتمثل في بناء عالم جديد متعدد الأقطاب، مهاجماً الأيديولوجيا الغربية.

ومنذ انهيار القطبية الثنائية وتفكّك الاتحاد السوفييتي، ظهر عالم هرم من الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأخذ يتهاوى ويتفتت، وأخذت ترتج معه خارطة العلاقات الدولية والمواقع الفكرية والسياسية. ووقف الإنسان الغربي، يتطلع إلى فلسفة بديلة تساعده على العثور على ذاته، وعلى محور لهذه الذات، ولم يعد يؤمن بأن الرأسمالية الليبرالية هي الأيديولوجيا الوحيدة لكل الأمم، ولم تعد وقائع من التاريخ تشكل منعطفات تاريخية فحسب، بل تشكل أيضاً بدايات لحقب من أفكار وأنظمة ومذاهب، سياسية وقانونية وأخلاقية وجمالية وفلسفية جديدة. وهذا يعني، في أبسط صوره، أن أمن كل دولة لم يعد مرتكزاً بين أفرادها، بل أصبح رهناً لإطار الأمن الجماعي. إذ يمكن تدويل كل مشكلة، والتحكم في معطياتها، وفقاً لما تقتضيه حقائق القوة، واعتبار الاقتصاد القوي هو المرتكز الرئيسي للقوة العسكرية القوية؛ فالقوى العظمى في عالم اليوم تصارع معضلة نشوء القوى العظمى وسقوطها، بما لهذه المعضلة من سرعة متغيرة في التنمية، وفي الابتكارات التكنولوجية والمتغيرات في السياسات الدولية. وجميع هذه القوى تبحر في خضم الزمان، وهي عاجزة كل العجز عن توجيه تياراته.

وهذا تأكيد أن وقائع الماضي لم تعد لها أية أهمية، ما لم تكن تلك الوقائع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمستقبل. ولا جدال في أن السبب الرئيسي وراء فشل الحضارة الغربية يتمثل في كون هذه الحضارة مادية، شكلاً ومضموناً. الأمر الذي انتهى بإنسانها إلى حياة تفتقد المعنى الرئيسي للحياة، من منظور العقل البشري، حيث يسود اللا معقول على واقعيات الحياة، في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، حتى في أبسط تفصيلات النظام الذي تقوم عليه والقوانين التي تنظم المعاملات المادية، من دون مراعاة فهم الغايات والأهداف والقيم، وفهم الذات.

لا ريب في أن سلامة العالم تتوقف على صحة اتجاهاته وسداد موقفه، بحيث لا يخرج من عالم الأيديولوجيا إلى عالم الواقع المادي المحض، بل عليه أن يتجاوز ذلك إلى عالم القيم، فيقوم بترسيخ قواعد التعاون، وتوفير المناخ الصحي للكرامة البشرية، وتكريس الهوية الحضارية للإنسانية كافة، وتساعد البشرية على استعادة ذاتها، وتحول بكل وسيلة وسبب دون انسداد شرايين الحياة، حيث تتجنب المآسي، وتختفي الصراعات المعلنة والخفية، ومحاولات بسط النفوذ، وكل أشكال الاعتداءات والمناوشات، وآخرها الصراع الروسي الأوكراني.

إن أية أيديولوجيا فاعلة يجب أن تستند، في كل تفصيلاتها، إلى القيم وحدها، من دون سواها، لأن ركيزة القيم في النفس البشرية السوية، أعمق جذوراً، وأشد فاعلية من كل الأيديولوجيات، مهما كانت مرجعية تلك الأيديولوجيا، وبذلك نضمن إيقاف ذلك التطواف الأليم خلال الظلام البارد واللامتناهي، الذي يلف البشرية ويغلف العالم المادي بذلك الغلاف الأسود الكئيب، والدمار الشامل الذي يثير الرعب والقلق في العالم.

لا بدّ للبشرية أن تتجاوز هذه النظريات، وتقدم للإنسانية مجتمعاً مختلفاً من خلال نهج سياسة التعاون الوثيق بين كل الدول في قومية إنسانية واحدة، وفي بوتقة المصالح المشتركة والتجانس، الثقافي والسياسي، التي تهدف إلى تعاون إنساني ودفع قيمة الحياة إلى المستوى اللائق في هذا الوجود.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrxmb278

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"