عادي
ضفة القراءة

بابلو نيرودا.. الورّاق الذي لم يجع

23:36 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز

كتبت قبل أيام أن معرض الشارقة الدولي معرض أجيال قارئة من الثمانينات وإلى اليوم، والمعرض أيضاً معرض جاليات قارئة بحكم وجود أكثر من مئتي جنسية تقيم وتعمل على أرض الدولة، وأضيف إلى هاتين الملاحظتين أن المعرض هو أفق واسع لما يمكن تسميته «الكتب القديمة الجديدة».. تولستوي، دوستوفسكي، بوشكين، لوركا، طه حسين، العقّاد الحكيم، ناظم حكمت، لوشيون، طاغور، ازرا باوند، نيتشه، دانتي، بودلير.. هؤلاء قدامى، ولكنهم جدد في المعرض بطبعات مستعادة أو جديدة. هذه ظاهرة لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها حين نقول إن المعرض أيضاً معرض ثقافة القراءة، والقراءة حبل وصل بين القديم والجديد، لا بل إن بعض قراءات القديم أكثر إشباعاً من بعض قراءات الجديد.

يتجوّل بابلو نيرودا ليس وحيداً في المعرض، معه زوجته وحبيبته ماتيلدا، وأقصد بذلك كتابه القديم الجديد «المذكرات» ترجمة محمود صبح،

قبل أن أتجول في حياة نيرودا أشير إلى نقطة لا يعرفها إلا من قرأ مذكراته جيداً، وهي أن صاحب «النشيد الأممي» كان ناشراً، ولكن كانت تجربة نشر محدودة، غير أن هناك قصة جميلة يذكرها نيرودا حين كان في مدريد في العام 1934.. يقول إنه يذكر دهشة بائع الكتب غارثيا ريكو حين اقترح عليه نيرودا أن يشتري منه طبعة قديمة من ديوان «غونغورا» الذي كان ثمنه 100 «بيسيته» فقط بأقساط شهرية قدرها 20 «بيسيته» كل شهر، يقول نيرودا لقد كان ثمن هذا الديوان مبلغاً زهيداً، غير أن الشاعر لم يكن يملك هذا المبلغ، ولا ننسى هنا أن نيرودا الفقير الذي لم يكن يمتلك ثمن كتاب، وأنه يشتري الكتب بالأقساط قد حصل على نوبل.. بعد هذا العَوَز.

ورغم فترات الفقر التي مر بها نيرودا إلا أنه لم يكن ضائعاً أو متشرداً أو لا مبالياً حين يتعلق الأمر بالكتب بشكل خاص، وهو عمل في أكثر من بلد في العالم قنصلاً أو ديبلوماسياً بدرجة سفير لبلاده تشيلي في عدد من بلدان العالم منها الصين وفرنسا، وكان أول ما يعتني به في نزله أو في بيوته التي تصرفها له السفارة هو الكتب.

ملمس

يقول نيرودا إنه أمضى ثلاثين عاماً وهو يجمع الكتب، وإنه جمع كتباً كثيرة. كانت رفوف مكتباته في عمله القنصلي وخارج هذا العمل الذي يبدو أنه كان يضيق ذرعاً به.. تحتوي على كتب طبعت قبل زمن بعيد.. كانت المجلدات بشكل خاص تهز نيرودا. كانت في حوزته كتب لثربانتس وغونغوار في طبعاتها الأصلية الأولية، كذلك كانت في مكتبته كتب للافورغه، ورامبو، ولوتريامون.

يستعيد نيرودا ملمس أصابع أصدقائه الشعراء والكتاب من خلال ورق هذه الكتب.. يقول كانت هذه الصفحات تبدو لي وكأنها لا تزال تحتفظ بلمس هؤلاء الشعراء الأحباء. لقد أهداني بول ايلوار بمناسبة عيد ميلادي في باريس الرسالتين اللتين كتبهما ايسابيل رامبة إلى أمه في المستشفى بمرسيليا حيث بترت لهذا المتشرد التائه ساقه. لقد كانت هاتان الرسالتان كنزين تطمع بهما المكتبة الوطنية في باريس وجامعو الكتب الشرهون في «شيكاغو».

ويقول في مكان آخر: «لقد جبت العوالم كلها إلى درجة أن مكتبتي نمت في إفراط وجاوزت شروط المكتبة الخاصة. ذات يوم أهديت مجموعة القواقع التي قضيت عشرين سنة وأنا أجمعها وتلك المجلدات التي بلغ عددها الخمسة آلاف التي اخترتها في حب عظيم من أقطار العالم كله، إلى جامعة تشيلي فاستقبل مدير الجامعة هذه الهبة بالجمل الطنانة والكلمات الجميلة».

ينتبه نيروا حتى إلى أكعاب الكتب، وهو حين دخل فيلا أحد معارفه ذات يوم رأى داراً ذات تدفئة وثريات بديعة، ولكنه رأى أيضاً الكتب: «رأيت جدراناً طافحة بالكتب أكعابها مختلفة الألوان والأشكال كأنها ربيع دائم..».

يتحدث نيرودا عن العشرات من الشعراء والسياسيين في هذه المذكرات، ومن بين هؤلاء شاعر يدعى مانويل التولاغيره.. وهذا له قصة مع الكتب والمطابع.. يقول نيرودا «إن مانويل هذا نصب مطبعة في حمأة المعركة بالجبهة الشرقية، قرب «خيرونا» في دير قديم. هناك طبع في شكل فريد من نوعه كتابي «إسبانيا في القلب» أظن أن كتباً قليلة في تاريخ الكتب الغريب، كان لها مثل ما كان لهذا الديوان من مخاض عجيب ومن مصير غريب».

من أكثر المشاهد فتنة في هذه المذكرات كيف تعلم الجنود في الجبهة صف حروف المطبعة «لكن كان ينقصهم الورق، وجدوا طاحونة قديمة فقرروا صنعه هناك. لقد كان خليطاً غريباً ما صنعوه، بين القنابل المتساقطة، في أجيج المعركة. كانوا يقذفون بكل شيء إلى الطاحونة من راية للعدو إلى عباءة مدماة لجندي مغربي. على الرغم من هذه المواد غير المتألفة في ما بينها ومع قلة خبرة الأيدي الصانعة فقد خرج الورق بديعاً جداً».

سؤال

ذلك مقطع «ورقي» من حياة بابلو نيرودا إن جاز التعبير هو: شاعر، وناثر، وناشر، وعاشق، وجامع كتب.. وورّاق.

هل كل شاعر هو ورّاق كبير أيضاً، ولكن من دون أن يربح أو يخسر شيئاً من مهنة اسمها «الوراقة»؟ والأهم من كل ذلك ألا يكون هذا الكاتب أو الورّاق قد باع كتبه أو بعضاً منها لأن الجوع قد عضه ذات يوم.. بابلو نيرودا لم يفعل ذلك أبداً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5t423zfm

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"