حرية التعبير في سجن الخوارزميات

00:49 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ندى أحمد جابر*
من قيود الازدواجية، والكيل بمكيال المصالح، إلى سجن الخوارزميات، وقمع الانتشار، والتحيّز الفاضح، لم يعد في الفضاء مساحة لخداع الأمس.. اليوم نتعلم أن مبدأ الحرية في التعبير كان الكذبة الخفية في وسائل الإعلام التقليدية، واليوم هو في العلن وراء قضبان الخوارزميات.. ولكن هل يصح أن نستمر في التصديق أنها (حرية)؟

بدأ شغف الناس بهذا المصطلح مع الكاتب (جان جاك روسو)، الذي يعد أب الثورة الفرنسية في أفكاره عن حقوق الإنسان، ومنذ أطلقت الثورة عام (1789)، ورد هذا المصطلح بشكل واضح، في وثيقة حقوق الإنسان التي نصت على حرية التعبير، وتبادل المعلومات، والأفكار، والآراء. لكنها استدركت في المادة نفسها، فأوضحت أنها تعني حرية أي عمل لا يجرح الآخرين، ولا يظلمهم.. فأصبحت هذه الحرية هدفاً سامياً للأفراد والشعوب، ومرتبطاً في الوقت نفسه بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين.

كانت البداية الحديثة يوم كرّس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام (1948)، المادة (19) التي تنص على أن لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي، والتعبير. حدث ذلك قبل أن يكتشف العالم أن لهذه الحرية قيوداً تختلف عن تلك القيود الأخلاقية التي وردت في المادة نفسها.. قيوداً كان يُحددها القائمون على وسائل الإعلام المعروفة آنذاك، وتسمح لها بانتهاك مشاعر ومعتقدات جهة معينة، ولا تسمح بالاقتراب من مشاعر ومعتقدات جهات أخرى. كالرسومات التي استفزت مشاعر المسلمين ودافع العالم عنها بحجة حرية التعبير، بينما الاقتراب ممنوع من مجرد تفسير معاداة السامية، أو السؤال عن محرقة الهولوكوست، بحجة احترام مشاعر اليهود. هذه الازدواجية أفقدت الحرية هيبتها.. لكننا اليوم نجدها تسقط أكثر في أضيق معتقلات التكنولوجيا.. الخوارزميات، تلك التي أصبحت تُستخدم من قبل أصحاب منصات التواصل الاجتماعي بشكل سلبي، لقمع حرية الرأي والتعبير.. فهي تحد من النقاش في بعض المواضيع الحقوقية، سواء بحذف محتوى، أو بحظر انتشاره، أو إضعاف نِسب ظهوره لتقليل التفاعل معه. هنا نجد أن الذكاء الاصطناعي يَستعمل الخوارزميات لتقييد حرية التعبير من دون أن تكون هناك قوانين تردع هذه المنصات، أو تحد من تدخلها للسيطرة على الرأي العام، ليكون كما تشتهي مصالحها، ومصالح شركات الإعلان التي تتحكم في كل وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية.. لذلك نجد اليوم أصواتاً تعلو مُطالِبة بأن يكون لجميع المشاركين الحق في فهم كيفية استخدام بياناتهم، وأن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي مفتوحة للتفتيش، وقرارتها قابلة للتفسير بالكامل، كي لا تبقى هذه الخوارزميات أشبه بالصناديق السوداء السرية التي تتلاعب بالرأي العام، بما يتناسب مع أهواء ومصالح غالباً ما تكون بعيدة كل البعد عن أخلاقيات مبدأ حرية التعبير الذي قامت هذه المنصات على أساسه. وهو ما ورد في كتاب «صندوق الخوارزميات الأسود» للكاتب فرانك باسل.

إعلام التواصل الاجتماعي يبدو اليوم كاسحاً، حيث نجده المتنفس الوحيد لدى الأغلبية من الناس طبقاً لإحصاءات كل التقارير السنوية، والأبحاث الرقمية.. ومع ذلك فإن قدرتنا على فهم عملية تشكيل الرأي العام إعلامياً، وفهم ذلك التأثير القوي لمنصات التواصل الاجتماعي تبقى بعيدة عن تحديد أهمية هذا الواقع.. وأهمية أن توضع ضوابط أخلاقية تحمي حرية التعبير للمجتمعات ذات الخصوصية من قمع خوارزميات تُحددها جهات غير معنية بمعتقداتها، ومبادئها التاريخية.

أصبحت المنصات التي نصحو عليها يومياً، مجموعة أنظمة خوارزمية تتحكم، بشكل متزايد، في كيفية نشر الأخبار، وإنتاجها في صناديق سوداء سرية تتلاعب بالعالم من دون أن يستطيع أحد محاسبتها، أو لجمها.

كانت الازدواجية مشكلة الأمس، في عصر ما قبل الإنترنت، ولم تكن هناك سوى طرق قليلة لمشاركة المعلومات بين الأفراد. وكان القائمون بالاتصال في تلك الوسائل هم المتحكمين في اختيار نوع المعلومات التي يمكن للعامة الوصول إليها، والذي عرف أكاديمياً ب(حارس البوابة). ثم جاءت الإنترنت التي كان من المفترض أن تتجاوز هذا الحارس، وتكسر الحواجز بين عامة الناس، وتسمح بالتدفق الحر لتبادل الأفكار.. لكن الحارس لم يتخل عن وظيفته في الفضاء الرقمي إلا بعد أن اغلق البوابة لتتحول ألي سجن جديد تديره خوارزميات الذكاء الاصطناعي.

وفي سجن الخوارزميات نجد أن قضبانه بدأت تؤثر في معنويات الناس في حرب غزة التي شغلت العالم، فهي التي تُدير النقاشات والحِوارات، وهي التي توصل الرسائل، أو تمنعها. وهي التي تفرض رقابتها على المحتويات. فمنذ تصاعد الصراع الدموي في قطاع غزة إلى ما يشبه الإبادة الجماعية، ورغم أن النداء كان إنسانياً، إلا أن الخوارزميات عطلته لأسباب معروفة للجميع، ما حدا بالبعض إلى اتّباع أسلوب الالتفاف على تلك الخوارزميات المبرمجة على القمع، باتّباع أسلوب التهجئة المتباعدة، أو الرسوم، فقط لتمرير منشور للوصول به إلى الرأي العام العالمي. وهكذا يتم اليوم التهرب من سيطرة الخوارزميات بتلك التكتيكات وهي أشبه بأضعف الإيمان، على أمل أن تتمكن الحكومات من إعداد مخارج لهذا الواقع الذي كشفته هذه الحرب، وهو لا يستهان به، لكونه المحرك الأول لتشكل عقول الناس.

اليوم، أعلنت الخوارزميات اعتقال حرية التعبير، أما حرية التفكير (الفكرة) فهي في الزمن الآلي سؤال ينتظرُ الجواب. سؤال اليوم التالي؟

[email protected]

*كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5fcnfa2m

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"