عادي

العزلة ابنة وفية لغياب المعنى

00:06 صباحا
قراءة 6 دقائق

القاهرة: مدحت صفوت

مع تدشين المعارض الفنية والتشكيلية الحديثة، تبدأ الأحاديث والنقاشات حول اهتمام الجمهور بالفن التشكيلي، وهي الأحاديث التي لا تخلو من شكوى الفنانين، أو منظمي المعارض من «عزوف الناس»، الأمر الذي يقابله متلقو الفنون بالكلام عن صعوبة «الفن»، وغرابته، فضلًا عن حاجته الدائمة إلى التفسير والشرح، ما يبعده -نظرياً- عن اهتماماتهم ودوائر تفضيلاتهم.

وتمتد الشكوى من الفنون الجميلة إلى المسؤولين عن إدارة المتاحف الفنية والوطنية، ويثير غياب الجمهور عن الأنشطة الثقافية والفنية جدلاً واسعاً، الأمر الذي لوحظ على نحو أوضح في أعقاب جائحة كوفيد-19، وفترات الإغلاق التي عاشها العالم، فما هي أسباب عزوف الجماهير العربية عن الفنّ التشكيلي وزيارة المتاحف؟ سؤال نحاول أن نتلمس إجابته، في دعوة للعمل على إزالة أسباب العزوف، ودعم وسائل الجذب، وتوسيع دوائر المهتمين.

*أسباب متنوعة

من واقع دراسات الحالة والتقارير المعنية ببحث أوضاع الفنّ في العالم العربي، فإن أسباب عزوف الجمهور تتنوع بين فنية محضة، ولوجستية، وأخرى دعائية وتسويقية، أبرزها الفجوة بين بعض المتلقين والفنون المعاصرة، وشعور المتلقي بالغربة بينه والأعمال الفنية، إذ يبحث الكثير من المتلقين عن معنى واضح ومباشر في اللوحات، والأعمال المعروضة، بينما قد تخاصم الفنون المعاصرة مثل هذه المفاهيم، فضلاً عن شعور الزائر بأنه يشاهد منتجاً لا يثير اهتمامه، بسبب ضعف إبداعي، أو تكرار العمل في نسخ أخرى، أو نخبوية المنتج، وانتمائه لمجال فني وفكري لا يتقاطع مع رؤية المتلقي العربي، وخلفياته الثقافية.

وإلى جانب عدم جاذبية محتوى المعروض فنياً، ثمة عوامل أخرى لوجستية، مثل تمركز أغلب المعارض في العواصم، أو المدن الكبيرة، وندرة وجودها في البلدات الصغيرة، أو النائية، ما يحول دون حضور الجماهير نظراً لبعد المسافة، أو مشقة الوصول. إضافة إلى عوامل دعائية وتسويقية تتمثل في ضعف الترويج للمعارض الفنية، الأمر الذي يرجعه القائمون على تنظيم المعارض إلى كلفة التسويق في ظل انخفاض المردود المادي، والعوائد الربحية من المتاحف، أو الفعاليات التشكيلية.

*وضع عالمي

الشكوى من قلة اهتمام الجهور بالفن التشكيلي ليست أمراً عربياً فحسب، إنمّا يشكو أغلب فناني العالم من المسألة ذاتها، وفي سبيل معالجتها، أعلن مركز متاحف الشمال الشرقي في المملكة المتحدة، منذ سنوات قريبة، إجراء مسح للأبحاث الموجودة حول جمهور المتاحف والمعارض في المملكة المتحدة، بهدف البحث عن أدوات وطرائق جذب الجماهير، ووضع الخطط المستقبلية لذلك، والتوقف أمام العوامل المؤثرة في قرارات الناس بشأن كيفية قضاء أوقات فراغهم، وكيفية اتخاذ العائلات قرار زيارة المتاحف، وتحديد العوائق التي تحول دون الحضور، وأنواع المعارض والفعاليات الجاذبة، والأدوات الترويجية الأكثر فعالية في الوصول إلى جماهير محددة، والدور المحتمل لأدوات الاتصال الناشئة داخل المتحف.

قوة إلهام

التفكير في أسباب عزوف الجهور عن الفن التشكيلي، أو كيفية جذب المزيد من المهتمين، أمر يطرح تساؤلات بشأن أهمية الفنون الجميلة للإنسان: فهل حقاً الفنّ مهم؟ ولماذا؟ ولحسن الحظ، الدراسات العلمية والتقارير الصحفية في هذا الشأن كثيرة، فجلّ الثقافات عملت على إيضاح تأثير الفنون -والتشكيلية تحديداً- في حياة الناس، وبافتراض سؤال مجموعة ما من الناس: ما أفضل قطعة استثمارية للشراء؟ قد يقولون ساعة، أو عقار، أو ربما ذهب، وفي كثير من الأحيان، لكن من المحتمل أن يذكروا الفنون الجميلة. فمنذ زمن سحيق، كان للناس علاقة بالفن بطريقة، أو بأخرى، كما كان دائماً، وسيظل جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، بغضّ النظر عن العرق، أو الميول السياسية، أو التراث الثقافي.

يقدر الناس الفن بطرق مختلفة، كالموسيقى والرقص والشِعر واللوحات، حتى الكتابة على الجدران «الجرافيتي». ويفضل البعض الانخراط في خلق الفن بطريقة مباشرة «هؤلاء الفنانون»، بينما يستمتع آخرون بتجربته، وتقديره. ومهما كان الأمر، فإن الفنون تؤثر على نحو كبير في كيفية رؤية الناس، وتفاعلهم مع الآخرين، والعالم بشكل عام. وربما يساعدنا الفن عاطفياً، ومالياً، وعقلياً، ويمكنه أيضاً أن يساعد على تشكيل شخصياتنا الفردية، والمجتمعية.

وفي دراسة للمؤلفة والناشرة سبيدة هونارباخت، توضح أن الفرد، ومنذ سنّ مبكرة، يستمتع بالفن من دون أن يعرف ذلك حقاً. ومن «الموبايلات» فوق سرير الطفولة، إلى القلاع الرملية التي يبنيها مع إخوته على الشاطئ، كان الفن جزءاً من الحياة، قبل أن يصير «هدية عظيمة» طوال حياتنا بأكملها. والحقيقة هي أن «الفن والتصميم يؤثران في الكثير مما نقوم به كل يوم، بدءاً من ارتداء ملابسنا في الصباح، وترتيب منازلنا، وتصميم حياتنا المهنية، وحياتنا التجارية. فقوة الفن الإلهام، وتغيير نظرتنا قوة بعيدة المدى وديناميكية، لكن يصعب في كثير من الأحيان تحديدها، أو وضعها في الكلمات».

وتبيّن هونارباخت أن الفن بإمكانه إثراء تعلم الفرد، سواء كان ذلك من خلال الإبداع الفني جسدياً، أو زيارة المتحف، إذ يمنح صنع الفن الفنان فرصة لمشاركة قصته مع العالم، والتعبير عن مشاعره، والحالة الإنسانية بطريقة مؤثرة بصرياً. ومع هذا الكم من المشاعر والمعلومات التي يتم نقلها، ليس من المستغرب أن نتعلم الكثير عن الثقافات الأخرى من خلال مشاهدة فنونهم، وأعمالهم الفنية.

وتتمتع الفنون الجميلة بتاريخ غني، وتظل جزءاً حيوياً من الحياة الحديثة، وتؤثر في جوانب المجتمع، والثقافة. كما تعزز حياتنا من خلال تغيير محيطنا المادي إلى أماكن للتأمل، والتجديد، والإلهام. واليوم، تضمن الوفرة التي لا نهاية لها من الوسائط والأساليب الفنية أن يتمكن الجميع من مشاهدة وشراء الأعمال الفنية التي تنال إعجابهم.

وتتسم الفنون بالكثير من الفوائد المعززة للمزاج، فمشاهدة القطع الفنية العميقة والملهمة يمكن أن تغير نظرة الفرد بطريقة إيجابية. ومجرد تصفح المعرض يمكن أن يخلق شعوراً بالتحسن، وتخفيف التوتر، بينما يمكن أن يكون الشراء والتسوق للأعمال الفنية مكافأة أطول أمداً. ويعد المشي عبر معرض أو متحف أمراً مهماً وتجربة لممارسة «السلام النفسي». أمّا شراء قطعة فنية فيؤدي إلى تحسين الحالة المزاجية، والشعور بالرضا.

ويتفق عدد من الدراسات في أن قدرة الناس على استحضار الأعمال الإبداعية على نحو طبيعي، وتوظيفها في الإلهام، لا تزال موضوع العديد من الأبحاث والنقاشات المتعلقة بأصول الفنون الجميلة. بل يعتقد البعض أن حمضنا النووي مبرمج مسبقاً، للاستمتاع بالفن وإنتاجه. قد يكون هذا هو التفسير المنطقي الوحيد لسبب قيام الأطفال الصغار بالخربشة على الجدران، واللعب بطعامهم، والتفاعل مع الموسيقى من دون تدريب. علاوة على ذلك، حتى لو لم يكن الأمر يتعلق بأحد الفنون المعترف بها، فكل شخص لديه بعض الخيوط الفنية مثل الموسيقى، والفنون البصرية، والفنون الجميلة، إلخ.

البداية بالتعليم

إذن، الفنّ مهم للإنسان، وبالتالي فإن العمل على جذب الجماهير للقطاعات الفنية المختلفة أمرٌ يصب في النهاية في مصلحة المجتمع، بمفهومه المحلي، أو العالمي، ومن هنا يبحث القائمون على الفنّ عن آليات تحقيق ذلك، ويأتي في مقدمتها الاهتمام بحضور الفنّ عموماً، والفنون الجميلة على نحو أخص، ضمن اهتمامات العملية التعليمية في مراحلها المختلفة، ما يسهم في تنمية ذائقة الجمهور، وزيادة الإدراك بالدور الذي تلعبه الفنون في حياة الإنسان.

رقمنة

أما بالنسبة للمتاحف، فإن المتخصصة في التسويق الفني آندي جراهام، تقدم نصائحها في مقالتها المنشورة في يوليو/ تموز 2024، على موقع Big Sea، وتؤكد أن المتاحف من ركائز الثقافة والتعلم، ولابد من استراتيجيات علمية لتسويق المتاحف، وأبز ركائزها «تطبيق التكنولوجيا الذكية»، إذ حاربت المتاحف الهواتف الذكية، وشجعت الزوار على ترك التكنولوجيا الخاصة بهم، والتركيز على الصور والتحف المعروضة أمامهم. وفقاً لرؤية جراهام.

وتبين آندي أن الممارسة بينت أن أفضل المؤسسات في جميع أنحاء العالم لابد أن تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في تسويق متاحفها، ومثال على ذلك، يمتلك متحف «متروبوليتان» للفنون في مدينة نيويورك موقعاً إلكترونياً وتطبيقاً يركزان على الأجهزة المحمولة لتوجيه الزوار خلال معروضاته. ويستخدم الأشخاص هواتفهم الذكية لمعرفة المزيد عن القطع التي يرونها، واكتشاف أعمال أخرى مثلها.

متاحف تفاعلية

هناك طريقة أخرى لزيادة حضور المتاحف، تتمثل في إنشاء معارض مخصصة للجماهير للترويج لها على وسائل التواصل الاجتماعي. وبدلاً من حرمان الزائرين من فرصة مشاركة ما رأوه مع الأصدقاء، يمكن للمتاحف تشجيع الأشخاص على التقاط صور شخصية، ومشاركة محتوى المتحف عبر الإنترنت. وتعمل هذه الصور على الترويج للمتاحف باعتبارها أماكن رائعة للزيارة، وتجعل المستخدمين عبر الإنترنت يتساءلون عن الشكل الذي ستبدو عليه المعروضات شخصياً. ويعد المحتوى الذي ينشئه المستخدم أحد أكثر الطرق فعالية من حيث الكلفة التي يمكنك من خلالها تعزيز تسويق متحفك.

وتطبيقاً لذلك، استضاف متحف الفنون الجميلة في سانت بطرسبرغ معرضاً بعنوان «هذه ليست صورة ذاتية»، وهو معرض يضم صوراً ذاتية فوتوغرافية من مجموعة أودري وسيدني إيرماس في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون. وتم تشجيع الضيوف على التفاعل مع جزء تفاعلي من المعرض، ومشاركة صورهم الشخصية على وسائل السوشيال ميديا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/57eev5d3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"