سعيد بن أحمد العتيبة في ذكريات على مدى 90 سنة:

لآلئ
01:48 صباحا
قراءة 8 دقائق
ضيفنا اليوم رجل بلغ التسعين من عمره، لا يزال يبحر في سفينته العملاقة التي تحمل الكثير من البضائع الغالية والنفيسة، والتي يجود بها على كل محتاج، قلبه الطيب والكبير يرفل بالحيوية والنشاط ولسانه يلهج بشكر الله على ما أنعم عليه من خير وصحة وعافية، ولا يزال يتذكر الحياة الصعبة التي عاشها وأقرانه في بدايات القرن الماضي، والتي بفضل الله تغيرت الى أحسن حال بفضل الله ومنّه علينا بالمغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، ليحيي به البلاد وينقذ به العباد من لهيب الحياة الصعبة والمعيشة الضنك، ومده الله بإخوة هم حكام ومؤسسو الإمارات، فكانوا له خير عضد ومعين، فأسسوا الدولة، وأرسوا قواعد البناء والتطور، فعم الخير أرجاء البلاد وشاع ضياؤها لتضي ما حولها من بلاد ويصل سناها إلى أقاصي الأرض وتعم خيراتها كل البلاد كغيمة تمطر دون أن تميز بين أرض وأخرى في الجود والعطاء، إنه الوالد سعيد بن أحمد بن خلف العتيبة، الذي يأخذنا مع في سفينة الذكريات المبحرة منذ أكثر من تسعين سنة ونسأل الله له طول العمر .

لم يطلق على المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لقب حكيم العرب جزافاً أو اعتباطاً، فقد كان رحمة الله عليه حكيماً في تصرفاته وقراراته وجميع أعماله، على المستوى المحلي والعربي والإقليمي والعالمي، ولو أنك تصفحت حياته لوجدته منذ سنين عمره الأولى وهو يتصف بهذه الصفة وغيرها من الصفات النبيلة والعالية، ونحن كأسرة العتيبة ربينا وعشنا وترعرعنا مع أسرة آل نهيان، وبيننا وبينهم علاقات نسب ومصاهرة، وكانوا يعيشون في بيوتنا ونحن نعيش في بيوتهم، والشيخ زايد رحمة الله عليه كان في سن أخي الأكبر محمد العفاد الذي يكبرني بست أو سبع سنين، وكان صديقاً للشيخ زايد ومرافقاً له في أبوظبي والعين، لأن الشيخ زايد كانت أكثر أوقاته يقضيها في العين، فهو من مواليد العين في أيام حكم والده الشيخ سلطان بن زايد الكبير لمدينة العين من أيام والده الشيخ زايد بن خليفة المعروف بزايد الكبير أو زايد الأول، وقد نشأ وترعرع مع أبناء العين، وكان لوالدي مزارع نخيل عديدة في العين والبلد التابعة لها مثل المويجعي والجيمي والقطار وهيلي وغيرها، وكان والدي يقيم في نخيله التي في الجيمي، وكان الشيخ زايد كثيراً ما يأتينا ويجلس معنا ويقضي أكثر أوقاته معنا حتى إنه كان يبات لأيام معنا، وكانت الحياة قديماً جداً حلوة وجميلة وبسيطة، والكل فيها أهل ويتعارفون، فهذا يبات عند هذا، وذاك يتغدى ويتعشى عند ذاك، وهكذا لم تكن هناك فوارق أو حواجز اجتماعية، وكان الشيخ زايد كما قلنا يتميز بأخلاق وسجايا طيبة وكريمة اكتسبها من التربية الخاصة التي رعته بها والدته الشيخة سلامة بنت بطي رحمها الله بعد وفاة والده وهو ابن سبع سنين، فقد كانت امرأة من نساء العرب الفاضلات المشهورات بقوة الشخصية والحكمة والطيب والخلق الحميد، وهذا ما انعكس على شخصية الشيخ زايد رحمة الله عليه، وكنا كثيراً ما نخرج نكشت معه (نرحل) في رحلات القنص والصيد والبحث عن الجديد في المحيط الذي يحيط بمدينة العين قديماً حتى كنا نتغلغل في حدود الدول المجاورة لنا .

شجاعة

كان الشيخ زايد رحمه الله يمتاز بالشجاعة والبسالة وعدم الخوف حتى من المجهول وشاركنا معه في عدة مواجهات مع قطاع الطرق الذين يقطعون طرق القوافل ويغيرون على أطراف البلاد، وكان رحمه الله يتصدى لهم بكل قوة ويوقفهم عند حدهم وكانوا يهابونه ويخشون سطوته في الحق، وكان الشيخ زايد رجلاً يهابه كل من يراه لجسامته ووسامته وحدة نظره وقوة شخصية، وكان الناس يتعرفون إليه ولو كان وسط ألف رجل، وذلك من صفاته التي ذكرتها لك، فسبحان الله من يرونه ويضعون أعينهم في عينه يعرفونه من نظرته الحادة والمهيبة، وحتى المقبل من بعيد ما أن يقترب من المحيطين بالشيخ زايد ومرافقيه حتى يتعرف إليه من هيبته، وكان أخي محمد العفاد يقرب الى طوله .

كرم ومهابة

لم نعاصر حاتم الطائي أكرم العرب في زمانه، لكننا عاصرنا وعشنا وتآخينا مع أكرم العرب والعجم في عصره وهو الشيخ زايد رحمة الله عليه، وكان وقبل أن يعينه أخوه الشيخ شخبوط بن سلطان رحمة الله عليه حاكم أبوظبي أميراً على العين يمتاز بصفة الكرم، فقد كان ينفق كل دخله في مدينة العين ومخصصاته من إرث وأملاك والده وأسرته وما ترسله إليه والدته وأخوه من أبوظبي على المحتاجين من أهل العين ومن يقصده من قريب أو من بعيد، حتى إننا كنا نرى رجالاً من البدو يحضرون من مناطق بعيدة يسألون عن الشيخ زايد وعن مكانه، وما إن يصلوا إليه حتى يعرف حاجتهم فيعطيهم ما قسم الله لهم مما وجد في يده، حتى إنه كان يأخذ من بعض المحيطين به ويعطي السائل كي لا يرده خائباً وقد قصده، وبعد ذلك يردها لذلك الشخص إلى حين ميسرة، وكانت الناس من جميع القبائل والأماكن تقصد مجلس الشيخ زايد والكثير منهم يعزمونه للحضور إليهم فيلبي دعوتهم، ولم تتغير هذه الصفات المتأصلة في جوهر شخصيته حتى عندما أصبح حاكماً لإمارة أبوظبي وحتى عندما أصبح رئيساً لدولة الإمارات، فزايد هو زايد، والذهب والألماس هو الذهب والألماس لا يتغير مهما مرت عليه السنون والأزمان، وأنا أكلمك عن قناعة لا عن مجرد مدح، فنحن عشنا معه معيشة الأخوة والأقارب ممن لم نكن نفارقه، فقد كنا لبعضنا بعضاً مثل المرايا ترى نفسك فيها وكان الشيخ زايد يطلب منا بل يأمرننا بأن نخبره إن بدا منه أي قصور أو زلة لا سمح الله وكنا ننصحه وينصحنا ونشاوره ويشاورنا في كل صغيرة وكبيرة .

وكما قلت لك إن الشيخ زايد رحمة الله عليه لم يغيره شيء لا منصب ولا مال ولا جاه، فقد احتفظ بجوهره النفيس وخلقه العالي وبساطته وحياته العادية ولولا تطور البلاد والرسميات لوجدت الشيخ زايد يسكن في بيت عادي قد لا يسكنه أحدنا لأنه لم يكن يهتم للمظاهر، ولوجدته يمتطي فرسه وناقته بدلاً من السيارات، فقد عاش رحمه الله حياة بسيطة، عاش متواضعاً ومات متواضعاً، وكنا كثيراً ما نعتب عليه ونلومه على إنفاق كل ما عنده وكان يجيبنا بأن الرزاق هو الله وأنه مخلف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول بشر المنفق خلفاً، فقد كان كثيراً ما يستشهد بمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وأقواله وهذا ما تجده في أقوال الشيخ زايد المأثورة فهي كثيراً ما تحتوي على نصوص قرآنية وأحاديث شريفة .

بلاد خضراء

نحن عندنا بيت في المغرب ومكثت هناك، فالمغرب جوها جميل وفيها الأمطار، وعندهم أنواع كثيرة من الأشجار والفاكهة والخضار والحبوب والمحاصيل، وكل ما تتمناه وتشتهيه لديهم، فبلادهم كلها خضراء من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى مغربها، وأنا دائم الذهاب الى المغرب ووالدي مانع كذلك وأخي خلف وأولادنا، والكثير من الربع والرفاق عندهم بيوت هناك، وهذا ليس مقصوراً على أهل الإمارات، فهناك تجد الإخوة من السعودية والكويت وغيرهما من عرب وأجانب يمتلكون بيوتاً هناك، فالمغرب بلاد حلوة فيها البحر وفيها الصحراء والجبال والأودية، وهناك جبال الأطلس التي تغطيها الثلوج طوال أيام العام، وهي بصراحة بلاد لا يمل منها، وأهلها أخيار وأحشام وأصحاب نخوة وأصالة، ويرحبون بك ويحبونك ويحترمونك ويقدرونك أيما تقدير، وحتى صحراؤهم تشبه صحراءنا بما فيها من رمل وحصى وحيوانات ونباتات، وكل ما تراه عندنا من نباتات صحراوية تراه عندهم هناك، من مرخ وأرطا وثمام وغيره وحتى العشب، وبدوهم يشبهون بدونا أيضاً، وهذا ما جعل بين الشعبين المغربي والإماراتي الكثير من صلات القربى والتصاهر والنسب، وكان الشيخ زايد رحمة الله عليه يسير إلى المغرب في مواسم القنص وغيرها من مواسم لقضاء أوقات الاستجمام وهذا منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وكنا نرافقه في الكثير من رحلاته إلى المغرب الرسمية وغير الرسمية، وكان رحمة الله عليه يحب المغرب كثيراً وكانت علاقته بالملك الراحل الحسن الثاني أكثر من أخوية وهناك أطلقوا عليه اسم زايد الخير، وكان رحمة الله عليه يحب شعب المغرب كثيراً وخيره عليهم كثير، ولا ينسى أي من سكان العالم مكرماته للحكومة والشعب المغربي السخية من بناء المستشفيات والمدارس والمساكن وتعبيد الطرق وكذلك بنى لهم عدة مطارات في أماكن مختلفة من المغرب، وكذلك الهبات النقدية التي دفعها للحكومة المغربية لتقوية ميزانيتها على مر السنين الطويلة التي امتدت فيها علاقات الإمارات بالمغرب الشقيق، وقد أوصى رحمه الله بتوفير فرص العمل للإخوة المغاربة، لوقوفه على حاجة هذا الشعب للعمل ولإخلاص أبنائه وتفانيهم في العمل، وخير زايد لم يكن مقصوراً على المغرب وشعبه بل امتدت أياديه الخيرة إلى الكثير من البلدان العربية الشقيقة والبلدان الإسلامية والكثير من بلاد العالم التي لم نسمع بها من قبل، فقد كان رحمه الله يعامل الناس جميعاً بالسواء ولا يفرق بين شخص وشخص آخر، وكان يعامل الإنسان كإنسان ولم يكن ينظر إلى لونه أو دينه ومذهبه وشكله وجنسيته، لهذا تجده محبوباً لدى كل أمم العالم وحتى لو سألت عنه الأعداء لأخبروك بأنهم يحبونه ويحترمونه ويذكرون مواقفه النبيلة معهم، وقلما تجد في هذا العالم من يجتمع على حبه واحترامه الصديق والعدو .

سنوات التطور

عشنا مع الشيخ زايد سنوات التأسيس والتطوير، ووجدناه يضع لبنة فوق لبنة في صرح أبوظبي ودولة الإمارات وكذلك تأسيسه ودعوته لمجلس التعاون الخليجي وحتى دعواته إلى الوحدة العربية الكبرى الذي وضع أولى لبناتها بتأسيس دولة الإمارات النموذج الأروع والأكمل في عالم الاتحادات العربية والعالمية، وفي أيام ترؤسي لغرفة التجارة في أبوظبي احتككت معه كثيراً في مجال الأعمال والاقتصاد واستفدت كثيراً من توجيهاته ومداخلاته في كل صغيرة وكبيرة، وكان يحب أن يطلع على كافة المشاريع الاقتصادية والصناعية بل كان يبادر هو رحمة الله عليه بالأفكار الجديدة ويطلب منا دراستها ومناقشتها معه ومن ثم يقف على تنفيذها خطوة بخطوة، وكان يحرص كل الحرص على الاستفادة من تجارب الآخرين، وكان يطلب منا تقديم المساعدة والخبرة لكل من يحتاجها، طلبها أم لم يطلبها، وكنا عندما نجتمع معه نحن وكبار رجال المال والاقتصاد والأعمال يحثنا على العمل والبناء والتنمية وتنويع مصادر الدخل يقول إن البترول غير دائم ولهذا علينا بناء الكوادر البشرية ولله الحمد أوجد كوادر بشرية كبيرة وعملاقة أمسكت بزمام الأمور في البلاد وقل اعتمادنا على الآخرين من أجانب وغيرهم وأصبحت البلاد تدار في كافة المجالات بأيدي أبنائها أبناء زايد الذين غرسهم وسقاهم بفكره وجهده وعرقه ومتابعته ومثابرته حتى كبر نبته وما زرعته يداه وحصده في الأخير رجالاً ونساءً، شباناً وشابات تراهم اليوم في كل ميادين الحياة العملية والعلمية من الأطباء والمهندسين والضباط وغيرهم، فرحم الله الشيخ زايد وأسكنه جنان الخلد وبارك لنا في نجله صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة حاكم دبي، وأخيه الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد ولي العهد وكافة أبناء زايد وأسرة آل مكتوم الكرام حفظهم الله جميعاً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"