«كورونا إيطاليا».. مستقبل جديد لـ«أوروبا»

02:12 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

كان اجتياح وباء كورونا لأوروبا الغربية بمثابة امتحان عسير لعلاقات التعاون والتضامن بين دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بالنسبة لإيطاليا وإسبانيا اللتين ضربهما الوباء بقسوة بالغة.
وقد ظل البلدان وحدهما طويلاً في مواجهة الوباء الشرس، الذي يحصد الأرواح بالمئات كل يوم، ويدمر الاقتصاد بلا رحمة، دون أن يمد لهما الاتحاد الأوروبي يد العون، بينما جاءتهما المساعدات من الصين وروسيا، اللتين يصنفهما الاتحاد الأوروبي و«الناتو» بأنهما تمثلان الخطر الأكبر على أوروبا، وعلى الأمن والسلام في العالم.. وكذلك من كوبا، الدولة الصغيرة التي تقع بعيداً وراء المحيط في أمريكا اللاتينية.

لم يتحرك الاتحاد الأوروبي إلا بعد أن بدأ الإيطاليون ينزلون علم الاتحاد، ويحرقونه.. ويرفعون مكانه أعلام الصين وروسيا وصور شي جين بينج وفلاديمير بوتين.
وأخيراً.. اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً «في بداية إبريل الجاري»، بتقديم حزمة مساعدات تبلغ قيمتها 100 مليار يورو للدول المتضررة من الوباء، وفي مقدمتها إيطاليا، ووجهت رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولافون ديبرلاين»، رسالة اعتذار إلى الإيطاليين تقر فيها بالتقصير في حقهم وتقول: «علينا أن نعترف بأنه في بداية الأزمة- وإزاء الحاجة إلى رد أوروبي مشترك- لم يفكر كثيرون إلا في مشاكلهم الوطنية».
وبديهي أن كلمات الاعتذار لن تعيد الموتى، ولن تجعل الشعب الإيطالي ينسى التجربة الرهيبة التي يمر بها منذ بداية انتشار الوباء- 21 فبراير- دون مساعدة من حلفائه الأوروبيين، وما ترتب عليها من شرخ نفسي عميق في علاقته بهؤلاء الحلفاء.


كلهم في الهم غرب


ويقتضي الإنصاف أن نشير إلى أن أغلب دول الاتحاد الأوروبي الكبرى قد ضربها الوباء، وسبب لها مشكلات صحية وإنسانية واقتصادية ضخمة، لكن من الضروري أيضاً ملاحظة أن ضخامة المشكلات تختلف من بلد إلى آخر، وكذلك القدرة على مواجهتها، وتقديم المساعدة إلى الأكثر معاناة.. وهو ما تعترف به رسالة الاعتذار من جانب رئيسة المفوضية الأوروبية. وهناك أيضاً مسألة التوقيت، فقد ظهرت المشكلة مبكراً، ومتفجرة في إيطاليا (21 فبراير).. ولم تكن قد تفاقمت بعد في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهما، مما كان يفرض عليها المسارعة إلى المساعدة.

والحقيقة أن تفشي الوباء في أوروبا الغربية، قد كشف عورتها فيما يتصل بالطابع الأناني القومي، تجاه الدول الأخرى الحليفة و«الشقيقة».. ومدى الزيف وانعدام المصداقية في الأحاديث المعسولة حول الإنسانية والتضامن الإنساني، وتحالف الديمقراطيات المتحضرة.. إلخ، وقد رأينا كيف تستولى دول أوروبية و«غربية» على صفقات من الأجهزة الطبية ومستلزمات الوقاية من كمامات وملابس طبية واقية، متجهة إلى دول أخرى ينتشر فيها الوباء، فأمريكا تنتزع صفقة كانت فرنسا قد اتفقت عليها مع الصين.. والتشيك تستولي على صفقة كانت متجهة إلى إيطاليا، وهبطت بها الطائرة في براغ «ترانزيت».. وإسبانيا طلبت النجدة من حلف «الناتو» بخصوص الأجهزة الطبية وملابس الوقاية والكمامات.. لكن قيادة الحلف اكتفت بإحالة الخطاب الإسباني للدول الأعضاء، التي لم تحرك أي منها ساكناً لمساعدة مدريد؛ بل إن تركيا- العضو في الحلف- استولت على صفقة أجهزة تنفس صناعية كانت متجهة من الصين إلى إسبانيا، أثناء توقف الطائرة الناقلة «ترانزيت» في مطار أنقرة! وهذا التصرف لم يكن غريباً على أردوغان.
ومن ناحية أخرى، فقد تصرفت الحكومات الأوروبية و«الغربية»، بانعدام شبه تام للمسؤولية السياسية والإنسانية والاجتماعية تجاه شعوبها ذاتها، في بداية تفشي الوباء. فقد تعمدت كلها التكتم على مدى انتشار الوباء، والتهوين من شأنه، وعدم اتخاذ الإجراءات الاحترازية الواجبة من إغلاق للمصانع والمنشآت الاقتصادية، وأماكن التجمعات ووقف رحلات الطيران.. إلخ، حرصاً على الأرباح، وحتى لا يضطر رجال الأعمال لدفع أجور لعمال منشآتهم المغلقة، أو تضطر الحكومات لتحمل مسؤوليات في هذا الصدد.. وقد ترتب على هذا فتح الأبواب على مصراعيها لتفشي الوباء، وبصورة كان يمكن تجنبها بالتأكيد.. وإذا كانوا قد فعلوا هذا مع شعوبهم.. فكيف الحال مع الشعوب والدول الأخرى؟
والحقيقة، أن كل تلك الحكومات قد برهنت على أن الأرباح أهم لديها من الأرواح، بما في ذلك أرواح شعوبها ذاتها، وكانت النتيجة خسائر أكبر من الأرواح والأرباح على السواء.


سياسات غير إنسانية


ويتصل بهذا كله أن انتشار الوباء كشف عن قصور واضح في المنظومات الصحية في دول الاتحاد الأوروبي، أدى إلى قصور في الوقاية والعلاج على السواء، بسبب تراجع دور «دول الرفاه» الأوروبية في رعاية الصحة العامة، تحت ضغط المد اليميني في أغلب دول الاتحاد الأوروبي، الذي يتبنى سياسات تهدف إلى تقليص الإنفاق الحكومي عموماً، وفي مجالات الرعاية الصحية والاجتماعية خصوصاً، لاسيما أن اتفاقية ماستريخت تنص على عدم جواز زيادة عجز الموازنة في بلدان الاتحاد الأوروبي عن (3%) وإلا فإنها تواجه صعوبات جمة في الاقتراض.. وقد انعكس هذا سلباً على مستوى المستشفيات العامة وتجهيزاتها، وأعداد الأطباء والطواقم الطبية، الأمر الذي كان له أثره في زيادة أعداد الوفيات، خاصة في إيطاليا وإسبانيا.


خسائر إيطاليا


هناك شبه إجماع بين الخبراء الاقتصاديين، على أن الخسائر الناجمة عن وباء كورونا ستزيد كثيراً حتى عن خسائر الكساد العظيم أزمة (1929).. وبالنسبة لإيطاليا فقد خسرت خلال شهر واحد ما يعادل (8%) من ناتجها المحلي الإجمالي (1.9 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يرتفع دينها العام إلى (137%) من ناتجها المحلي، أي أنها ستحتاج إلى موارد هائلة لاستعادة انتعاش اقتصادها؛ بحيث لا تبدو ال(100) مليار يورو التي يخصصها الاتحاد الأوروبي لجميع المتضررين إلا نقطة في بحر.. ومن ناحية أخرى فإن كريستين لاجارد رئيسة البنك المركز الأوروبي، أعربت عن استعداد البنك «لشراء الأصول»، وهو ما سيواجه رفضاً من الشعب الإيطالي، يغذيه الغضب مما حدث خلال الفترة الماضية من سلوك أوروبي تجاهه.. والأرجح أن الشرخ سيتسع في علاقة إيطاليا بالاتحاد، خصوصاً أن الصين موجودة وجاهزة لدعم الاقتصاد الإيطالي، وتوسيع نفوذها في أوروبا.. كما أن الحكومة الشعبوية في روما بقيادة جوسيبي كونتي، والأغلبية من حركة «الخمس نجوم»، متحفزة أصلاً ضد الاتحاد العتيد وقيادة ألمانيا له، ولذلك فإن سيناريو خروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي لم يعد مستبعداً، بعد انتهاء أزمة كورونا.
أما إسبانيا، فلديها ظروف تخص الحركات الانفصالية فيها، لا تجعل تفكيرها في الانسحاب من الاتحاد مرجحاً، على الرغم من المرارة.
وعلى أية حال فإن ضعف الاتحاد الأوروبي أو حتى انهياره- إذا حدث- سيكون أحد ملامح ما يردده جميع المراقبين، الآن، من أن عالم ما بعد كورونا لن يكون مثلما كان قبله.. وهذه حقيقة لم تعد محل شك.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"