حدود ذائبة

04:10 صباحا
قراءة دقيقتين
صفية الشحي

تكاد الحدود بين الشقين الأساسيين -العمل، والمنزل- تذوب، وتتداخل. ومع اضطرار الملايين من البشر للعمل عند بعد، أصبح من الصعب التفريق بين بداية اليوم، ونهايته، إذ إن مكاتبنا التي نقلناها إلى زوايا صغيرة محشورة بدأت تمد أصابعها لتعبث بما كنا نعتبره ملاذاً آمناً قبل فترة، دافعة الجميع للبحث عن إجابات شافية تضمن لهم تحقيق التوازن بين العمل، والمنزل، رغم إدراكهم أن الأمر ليس باليسير، فالأمر لا يتعلق بالفرد نفسه، وحسب، بل بمنظومة متكاملة تشمل قوانين الموارد البشرية، واستراتيجيات القادة والمديرين في أماكن العمل والثقافة التي يرسخونها فيها.
إن تاريخ مفهوم التوازن بين العمل والمنزل يعود إلى عام 1930 حين ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية بعض البرامج التي من شأنها المساهمة في تنظيم حياة عمال المصانع، وقد كانت شركة «كالوج» أول من بادر في تطبيق نظام الساعات المرن، ما ساهم في رفع مستوى أداء العمال، وثقتهم بأنفسهم، وفي ثمانينات القرن الماضي هبّت الموجة الأولى من هذا الحراك ساعية لدعم الأمهات العاملات، وأطفالهن، بالدرجة الأولى.
وقد تطور هذا المفهوم عبر الأجيال منذ ستينات القرن الماضي، وحتى الألفية الجديدة، بفعل تغيرات اقتصادية، واجتماعية، وتكنولوجية، والأخيرة تمثل المعضلة والحل في آن، إذ، وبسبب التقنيات المتطورة التي نملكها اليوم أفراداً ومؤسسات في ظل اتصالنا على مدار الأربع والعشرين ساعة طوال الأسبوع بالشبكة، فإن قدرتنا على رسم الحدود بين المكتب والمنزل باتت أكثر ضعفاً، فأصبحت قيماً مثل الرضا الوظيفي، والصحة النفسية، والفعالية الوظيفية، هي الأكثر تداولاً، إضافة إلى تأثير الوضع الذي فرضته ظروف الحجر المنزلي والصحي في الكرة الأرضية في 2020، وما تبعه من نتائج كارثية، مثل فقدان الملايين لوظائفهم، ومنازلهم، ووقوع ملايين آخرين تحت ضغط الخوف مما يحمله المستقبل المجهول، وما يقابل كل ذلك من استمرار الشركات في إعلان الإفلاس، أو الإغلاق الجزئي، وتخفيض الميزانيات، والرواتب، وفي أسوأ الأحوال عدم قدرتها على الالتزام بسدادها، ما يترك الموظفين من دون خيارات كثيرة، فإما الصبر، وإما البطالة.
إن تحقيق التوازن لا يتمثل في رسم حدود واضحة بين المهام، والأعباء، أو وضع قوائم مهام يومية ومتابعة تحقيقها، وحسب، بل هو يرتبط بالقيم التي نسعى لتعزيزها، مثل الاستقرار، والأمن، والصحة العقلية والنفسية والجسدية، والأمان الروحي، والعلاقات التي تجمعنا بأُسرنا، وبالآخرين، وكذلك يرتبط بأهدافنا طويلة وقصيرة الأمد، وكيفية قياسها، والتأكد من تحقيقها، وأثر كل ذلك فينا، وفي الأشخاص الذين نحبهم، ويعنينا أمرهم، وكذلك هو معني بالمؤسسات التي نعمل فيها ومدى إدراكها لضرورة احترامها للحدود، وفهمها لأهمية أن ينجح الموظف في حفظ توازنه النفسي، والجسدي، والأسري، حتى يتمكن من تأدية واجباته على أكمل وجه، والمساهمة في دفع العجلة حتى يصل الجميع إلى بر الأمان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"