الدراسات المستقبلية في السياق العربي

04:03 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

دفع الفضول، والخوف أحياناً؛ الإنسان منذ القدم، إلى طرح تساؤلات وتصورات تتعلق بالمستقبل، ما شكّل أيضاً مادّة دسمة لكثير من الأفكار الفلسفية التي رصدت العلاقة القائمة بين الماضي، والحاضر، والمستقبل.
إن العودة إلى الماضي مهمّة للاستفادة من التراكمات في مختلف المجالات والعلوم، كما أن التطلّع للمستقبل هو أمر أساسي لتحصين الذات والمحيط في عالم متشابك المصالح، وبقضاياه، ومخاطره المعّقدة.
وأصبح تحقيق التنمية وكسب رهان الأمن الإنساني مشروطين بالانفتاح على المستقبل، وتشجيع البحث العلمي، كما أن امتلاك معطيات دقيقة عن المستقبل هو أحد المقومات التي تمكن الدول من كسب عدد من الرهانات التي تجعلها تستأثر بمكانة محترمة بين الأمم في الحاضر، والمستقبل.
وفي هذا السياق، برزت الدراسات المستقبلية كحقل معرفي قائم بذاته موضوعياً ومنهجياً، يجمع بين مقومات العلم، بما يحيل إليه الأمر من دقّة، وصرامة، وموضوعية، والفن بما يحيل إليه الأمر من إبداع وابتكار.
بدأت أولى البوادر الحديثة لهذه الدراسات العلمية تبرز داخل الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث تمّ توظيفها خلال هذه المرحلة في المجالات الاستراتيجية والعسكرية، قبل أن ينتقل الأمر إلى مجالات التجارة، والاقتصاد، والسياسة، والأمن بمفهومه الشامل.. ثم تطوّر الأمر بشكل كبير في العقود الأخيرة، مع ظهور عدد من المراكز والمؤسسات العلمية التي تعنى بالموضوع، وإدراج هذا الأخير ضمن برامج واهتمامات الجامعات..
ووعياً بأهمية هذه الدراسات أصبح الكثير من صناع القرار السياسي في عدد من الدول المتقدمة الأخرى كبريطانيا، واليابان، والصين، يستحضرون مخرجات المراكز والمؤسسات المعنية بهذه الدراسات في بلورة القرارات والسياسات، بما يساعد على توجيه الأحداث والتحكم فيها، وتلافي خروج الأمور عن السيطرة داخلياً، ودولياً..
وتنطوي الدراسات المستقبلية على أهمية كبرى في عالم اليوم، بالنظر إلى أنها تدعم التخطيط الاستراتيجي في عدد من القطاعات والمجالات المدنية، والعسكرية، وتوفّر لصانعي القرار عددا من الخيارات والبدائل التي تدعم تحقّق الجاهزية لمواجهة مختلف التحديات، والأزمات، والمخاطر المحتملة، وتضمن عقلنة القرارات، وفعاليتها، علاوة على استحضار حاجات الأجيال المقبلة ضمن السياسات العمومية، وإرساء تنشئة اجتماعية تستحضر المستقبل بتحدياته، وفرصه، ومخاطره..
و يختصر الباحثون تطّور الدراسات المستقبلية ضمن ثلاث مراحل، تتّصل الأولى باليوتوبيا، وهي تعكس عدداً من الأفكار الفلسفية ذات الصّلة، والتي بدأت مع أفلاطون وتطوّرت مع عدد من الفلاسفة فيما بعد، وتحيل الثانية إلى التخطيط الذي أرساه الاتحاد السوفييتي بعد الثورة البلشفية، وانخراط عدد من العلماء والباحثين، كالفيلسوف الفرنسي «جاستون بيرجر» في إرساء تصورات ونظريات، مهّدت لبروز مؤسّسات تعنى بهذا الشأن في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية..
أما المرحلة الثالثة، فتتركّز حول النماذج العالمية، بعدما بدأ تجاوز المقاربات التي تنصب على قضايا الدولة الواحدة في هذا الخصوص، لتتوسّع معها دائرة الأبحاث لتطال عدداً من القضايا الاستراتيجية الدولية كالتّسلح، والبيئة، والإرهاب، والاقتصاد..
وتسمح الدراسات المستقبلية بالتنبؤ بالأحداث وتطوّر القضايا والظواهر الاجتماعية، والسياسية ،والاقتصادية، بناء على عدد من المؤشرات والمعطيات، ما يتيح إرساء قرارات وتشريعات مواكبة ومستدامة، تستحضر المستقبل كما الحاضر، وتفتح باب الاستعداد للمستقبل بكل جاهزية وثقة بالنفس.
إن التنبؤ الذي تنحو إلى تحقيقه هذه الدراسات والذي قد يمتدّ مداه من خمس سنوات إلى خمسين عاماً، يختلف جذرياً عن أساليب التنجيم، و«قراءة الغيبيات»، فهي تقوم على أسس علمية، ومناهج متطورة، ما يجعل التوقّعات مبنية على مؤشرات ومعطيات دقيقة..
بدأ الاهتمام بالدراسات الاستراتيجية في المنطقة العربية، في سنوات السبعينات من القرن الماضي، مع تزايد الإشكالات التي بات يطرحها تطوّر الصراع العربي - الإسرائيلي، وقضايا الميّاه، وتقلبات سوق النفط والغاز، والرغبة في تحقيق التنمية، ومع ذلك، تشير الكثير من الدراسات والمعطيات الإحصائية المتعلقة بواقع البحث العلمي في المنطقة، إلى قلّة الدراسات والأبحاث المستقبلية المنجزة في مختلف الحقول المعرفية، رغم الأهمية التي تحظى بها في عالم اليوم، بالنظر لقدرتها على التوقع وتجاوز المقاربات التقليدية الوصفية ورصد اتجاهات الأحداث، واستشراف المستقبل، وتطور الظواهر والقضايا والأزمات والمخاطر الدولية، في أبعادها الاجتماعية، والاستراتيجية، والعسكرية.. ولدورها في عقلنة القرارات وتجويدها في القطاعين العام، والخاص.. بما يكلّف عدداً من الدول العربية هدر المزيد من الوقت والإمكانات..
وأخذاًفي الاعتبار لبعض التجارب العربية الواعدة، يبدو أن هناك مجموعة من العوامل والاعتبارات التي تؤثر بالسّلب في هذا الخصوص، تتّصل في مجملها بعدم استحضار التخطيط الاستراتيجي كأسلوب للتدبير في القطاعين العام، والخاص، وغياب تراكمات علمية وازنة في هذا الشأن، إضافة إلى هشاشة الإمكانات المرصودة للبحث العلمي والجامعات بشكل عام، وضعف الاستثمار في البحث العلمي، وعدم انفتاح صانعي القرار على مخرجاته، ثم انشغال عدد من الدول العربية بتدبير قضايا وأزمات راهنة استنفذت قدراتها، وإمكانيتها، وغياب ثقافة مجتمعية، وفي أوساط صانعي القرار، تدعم الاجتهاد، وتؤمن بجدوى العلوم، وبالفرص الهائلة التي تزخر بها.
إن كسب هذا الرهان في المنطقة يقتضي إعادة الاعتبار لمنظومتي التعليم، والبحث العلمي، ومواكبة التطورات التكنولوجية العالمية، والانفتاح على ما يعرفه العالم من تحولات وتطورات في هذا الخصوص، وإيلاء الاهتمام الكافي إلى الكفاءات والطاقات البشرية التي تزخر بها المنطقة، والتي كثيراً ما يدفعها التهميش إلى الهجرة للخارج بحثاً عن فضاءات أرحب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"