انقلاب الأحلام الكبرى إلى كوابيس

04:13 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

يبدو، في حاضر وماضي بلاد العرب، أن الأحلام الكبيرة تنتهي دوماً في يد من يحرثون البحر، لا زرع ينمو ولا حصاد يقطف. إنها ظاهرة أصبحت جزءاً من الكينونة الحضارية العربية وعادة تمارس بلا كابح. لنذكّر أنفسنا ببعض الأمثلة:
بعد فترة وجيزة من موت رسول الإسلام (عليه الصلاة والسلام) تدخل المجتمعات الإسلامية في مجادلات مرجعية قراءة وفهم وتطبيق النصوص الأصلية المؤسسة، أي القرآن الكريم والأحاديث النبوية. هل الفهم يجب أن يكون من خلال ما قاله وأكّده السلف الصالح، وما نقل عن أصحاب رسول الله على الأخص، أم يضاف إلى ذلك الاحتكام إلى العقل والمنطق الإنساني. تمثّلت تلك النّقلة في ظهور مدرسة المعتزلة التي طرحت للنقاش قضايا وتساؤلات كثيرة من مثل الترابط بين حرية الإنسان ومسؤولياته أمام خالقه، ومواضيع العدالة والأخلاق كما يضبطهما العقل الإنساني.
لكن مدرسة المعتزلة تاهت بالدخول في مناظرات كلامية وفلسفية معقدة، ثم قادها بعض أتباعها وبعض رجالات السلطة إلى متاهات السياسة وأحابيلها، فكانت النتيجة أن ضاعت على العرب والمسلمين فرصة تاريخية بالغة الوعد والأهمية لتأسيس حضارة ترتكز على ممارسة عقلانية قابلة للتجديد والتطوير.
مثلما حدث لإمكانيات التقدم في مدرسة المعتزلة، حدث لمدرسة الإصلاح الديني الإسلامي التي كانت مليئة بالإمكانيات التجديدية، عبر أكثر من قرن من الزمن. يكفي أن نذكر أسماء من مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي ومحمد رشيد رضا وعلي عبد الرزاق وعبد الحميد بن باديس وعلاًّل الفاسي ومحمود شلتوت وعمر عبدالرحمن، حتى نعرف حجم وتنوُّع وغزارة تلك النهضة الإصلاحية. لكن، وكالعادة، ضعفت تلك الحركة الإصلاحية الواعدة ودّبت الخلافات في ما بين أركانها، وفشلت في تأصيل وتجذير فكرها الإصلاحي التجديدي في المجتمعات
العربية والإسلامية. فكانت إحدى نتائج ذلك الإخفاق قيام مدارس فقهية جامدة وشديدة المعاداة لعصرها، ولتنتهي بصعود ظاهرة الجنون التكفيري العنفي الذي يتمثّل اليوم في حركات من مثل «القاعدة» و«داعش» و«النصرة». مرة أخرى سقطت حركة عقلانية إصلاحية لتحل محلها بربرية همجية.
دعنا ننتقل من أحلام الإصلاحات الدينية الكبرى إلى أحلام التغيرات الكبرى في حقل السياسة.
يتحد القطر المصري مع القطر السوري، ما أوقد الوعي الوحدوي لدى الملايين من المواطنين العرب الذين امتلأت
نفوسهم بالأمل في قيام دولة عربية مترامية الأطراف، تقود إلى نهوض حضاري هائل وخروج من تخلّف تاريخي مخجل. فجأة انفتحت أبواب المستقبل الواعد، وفجأة انقلب ذلك الحلم الرائع إلى كابوس محبط، وضاعت فرصة تاريخية أخرى.
وانطبق الأمر نفسه على حلم كبير بشأن إمكانية وحدة أخرى في ما بين سوريا والعراق. وكان منطقياً أن تستطيع قيادة قومية واحدة لحزب البعث فرض قيام وحدة بين القطرين. ولكن كالعادة، تبيّن أن الحديث عن المنطق في بلاد العرب هو من قبيل الهذيان، وضاعت فرصة تاريخية أخرى.
وآخر مثل هو محاولة تقريب وتفاهم قوى التيّار القومي العربي مع قوى التيار الإسلامي السياسي المعتدل.. وكانت النفوس مليئة بالأمل في الخروج من الصراعات والمماحكات القديمة وبدء العمل السياسي المشترك لإخراج الأمة من محنها وضعفها. لكن، مرة أخرى، جاءت رياح وخلافات وصراعات وانتكاسات الربيع العربي، لتئد تلك المحاولة ولينقلب ذلك الحلم إلى كابوس تعيشه المجتمعات المدنية السياسية إلى يومنا هذا.
لا يمكن للإنسان المعني بمصير هذه الأمة والملتزم بالنضال من أجل نهوضها إلا أن يسأل: أين الخلل المسبّب في السقوط المفجع لمثل تلك المحاولات؟
لا يكفي أن نوجه أصابع الاتهام إلى تآمر الخارج الاستعماري والصهيوني، ولا إلى الفساد والاستبداد الداخلي. هذا قد يفسر بعض ما حدث، ولكنه لا يفسر كل ما حدث ولا يفسر ما يحدث اليوم من مواجهة الجحيم العربي بالعجز والانقسامات العبثية والتراجع عن كل الالتزامات القومية العربية المشتركة.
لعلّ في أعماق عدم القدرة على التعايش مع الحدود الدنيا من العقلانية والقدرة العجيبة على التعايش مع السلوكيات والقيم الأخلاقية المشوهة تكمن بعض الأجوبة، وإنها لأجوبة كارثية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"