الدور الجيوسياسي للقواعد العسكرية

03:25 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

بالرغم من التطور الصناعي والتكنولوجي الذي تشهده البشرية إلا أن القواعد العسكرية مازالت تمثل رهاناً استراتيجياً في غاية الأهمية بالنسبة للقوى الكبرى

تمثل القواعد العسكرية المنتشرة عبر العالم إحدى أهم وسائل إبراز القدرة والقوة للدفاع عن المصالح والنفوذ بالنسبة للدول العظمى. وتشير الدراسات التاريخية إلى أن استراتيجية الدول والممالك لتأمين حدودها ومواجهة المخاطر بشكل استباقي، بدأت مع الإمبراطورية الرومانية، حيث يؤكد أرنولد توينبي أن إقامة قواعد عسكرية شكّلت المنهجية الأساسية التي مكّنت روما من فرض تفوقها السياسي على العالم، وجعلتها تقترح على حلفائها المساهمة في توفير الحماية لهم في مقابل التنازل عن مناطق محصنة من أراضيهم لبناء قواعد عسكرية. وبالتالي فإنه بالرغم من التطور الصناعي والتكنولوجي الذي تشهده البشرية إلا أن القواعد العسكرية مازالت تمثل رهاناً استراتيجياً في غاية الأهمية بالنسبة للقوى الكبرى.

وإذا كان الدور العسكري للقواعد المتقدمة لم يتغيّر كثيراً عبر المراحل التاريخية المختلفة، فإن الدور الجيوسياسي والاستراتيجي الذي باتت تمثله عرف تحولات كبرى في المرحلة المعاصرة، فبعد أن كانت هذه القواعد ترمز إلى الهيمنة الأجنبية للقوى الإمبراطورية، فإنها أصبحت تدخل في معظم الحالات في خانة التحالف والتعاون ما بين الدول، وهو الأمر الذي يفسّر استقبال دول ذات قدرات عسكرية ونووية كبرى قواعد عسكرية أجنبية، كما هو الحال بالنسبة لبريطانيا التي تحتضن قواعد عسكرية أمريكية في سياق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. ويقول الباحث مورغان باغليا إن القوى الكبرى تعتمد على القواعد العسكرية لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:

1- من أجل التدخل في مناطق النفوذ للدفاع عن مصالحها، 2- لضمان أمن أحد حلفائها، 3- لمراقبة أراضي الخصوم.

وقد تطورت القواعد العسكرية في الحقبة المعاصرة خلال مرحلتين مهمتين، ارتبطت الأولى بنهاية الاستعمار المباشر للدول، ونتج عنها حاجة القوى الاستعمارية الكبرى إلى الحفاظ على بعض القواعد العسكرية لتسيير مرحلة ما بعد خروجها من أراضي الدول المستقلة، وارتبطت المرحلة الثانية بالحرب الباردة التي دفعت المعسكرين إلى إقامة قواعد مراقبة متقدمة لرصد تحركات بعضهما ولنشر منظومات صواريخ نووية بهدف تحقيق التوازن الاستراتيجي، وذلك قبل أن تصل القواعد العسكرية إلى المرحلة الراهنة التي تسعى فيها الدول إلى إعادة تأهيل هذه القواعد لتكون أكثر قدرة على الاستجابة للتحديات الجديدة.

وتحتل الولايات المتحدة في هذا السياق، المرتبة الأولى في العالم على مستوى انتشار القواعد العسكرية، إذ إن القواعد الأمريكية تنتشر على شكل دائرة تحيط بالكرة الأرضية عبر قاراتها الخمس، وتتيح لواشنطن التدخل عسكرياً في أي منطقة من العالم من أجل حماية مصالحها سواء في أوروبا عبر حلف الناتو أو في إفريقيا وآسيا لاسيما من خلال قواعدها في الفلبين وأفغانستان، وما زالت ترفض حتى الآن مغادرة قواعدها في العراق رغم الهجمات التي استهدفت مواقعها العسكرية؛ وبالتالي فإنه إذا كانت القواعد العسكرية الأمريكية في زمن الحرب الباردة قد سعت إلى محاصرة المعسكر الشرقي، فإنها تقوم الآن بتركيز جهودها على شرق آسيا من أجل الضغط على الصين وكوريا الشمالية.

وتعمل روسيا من جانبها على القيام بإعادة انتشار جديد في العالم بناءً على قواعد استراتيجية جديدة لاسيما في محيط أوراسيا وفي البحر الأسود بعد ضمّها شبه جزيرة القرم التي تتوافر على أكبر قاعدة بحرية للجيش الروسي، كما عزّزت موسكو تواجدها في حدودها مع شرق أوروبا بخاصة في قاعدة لينينغراد التي تضم ترسانتها الصاروخية الأكثر تطوراً، وذلك فضلاً عن تواجدها بشرق المتوسط في سوريا من خلال قاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم، وتتفاوض حالياً مع دمشق من أجل تعزيز تواجدها العسكري في شرق المتوسط.

ولا تزال، في السياق نفسه، كل من بريطانيا وفرنسا تحتفظان بالعديد من القواعد العسكرية المنتشرة عبر العالم من أجل الدفاع عن مصالحهما؛ فإذا كان الوجود البريطاني موزعاً على العديد من المناطق في جنوب أوروبا بجبل طارق وفي آسيا وأمريكا الجنوبية بالقرب من الأرجنتين، فإن التواجد العسكري الفرنسي ينحصر بالدرجة الأولى في غرب إفريقيا من أجل مساعدة دول المنطقة على مواجهة التنظيمات الإرهابية.

ونستطيع أن نخلص في الأخير إلى أن التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الذي مافتئت تحققه الصين سيبقى هشاً إذا ما ظلت تفتقر لإمكانيات القوة العسكرية الضرورية التي تتيح لها الدفاع عن مصالحها في مواجهة الحصار الذي تمارسه عليها واشنطن في مناطق عديدة من العالم في مرحلة أضحت تمثل فيها القواعد العسكرية، قواعد للقوة في سياق منظومة العلاقات الدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"