التميز في مواجهة الوباء

04:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

تَعِد ألمانيا بأن تسيطر على الوباء قبل بداية رفع إجراءات الإغلاق، بالتدريج. ومع أن الإصابات بالفيروس فيها جاوزت المئة وأربعين ألفاً حتى اليوم، إلا أن معدلات الشفاء فيها - وهي الأعلى بعد الصين - بلغت ما يقارب ثلثي المصابين (85 ألفاً)، بينما لم يتجاوز عدد الوفيات الأربعة آلاف وأربعمئة؛ وهي أقل نسبة في العالم من الوفيات.
وحكومة ألمانيا الفيدرالية لا تَعِد مواطنيها إلا بما تستطيع القيام به، خلافاً لما تفعله بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية حين تعِد حكوماتهما برفع الإغلاق سريعاً في الوقت الذي يتفشى فيه الوباء على أوسع النطاقات، وتتضاعف أعداد الوفيات كلّ أسبوع، ويقف النظام الصحي فيهما عاجزاً عن استيعاب جحافل المصابين بالداء. نقطة تفوُّق ألمانيا على نظيراتها الغربيات لا يكمن، هنا، في صدقية خطابها السياسي الموجه إلى الرأي العام، فحسب؛ بل نظامها الصحي المتقدم الذي كشف عن قدرته على الاستجابة لضغط الوباء، ومغالبته بعلاج ثلثي المصابين، وحماية أرواح الآلاف ممن كان من الممكن أن يقضوا بالوباء. وتقدم النظام هذا وتفوقه يعود إلى سياسات عليا للدولة، أولت قطاع الصحة أولوية مركزية، وأنفقت على البحث العلمي فيه، ولم تُضَحِّ به على مذبح مصالح الرأسمال مثلما فعلت معظم دول الغرب الرأسمالي. وتكاد ألمانيا في هذا المسلك تشبه دولاً رأسمالية أصغر في أوروبا لم تَسِرْ، بدورها، على نهج السياسات الرّيغانيّة - التّتشارية في «التحرير» الكامل للقطاعات الاجتماعية؛ بل استمرت في الإنفاق العام عليها وحمايتها، ومنها السويد، والنرويج، وفنلندا.
ما تعِد به ألمانيا تقوى على بلوغه وإنجازه نظير ما قَوِيَتْ على ذلك الصين. وهي تَقوى عليه لأنها تمتلك، مثل الصين، قوتين رئيستين لا تكون سيطرة على الأوبئة والكوارث إلا بهما، هما: الدولة والعلم. من غير دولةٍ قوية مقتدرة، ذات فاعلية تدخلية حاسمة، ليس لمجتمعٍ أن يتماسك في وجه النّوائب الكبرى المدمرة مثل المجاعات العامة والكوارِث الطبيعية والأوبئة. وليس مقياس قوة الدولة تسلطها المادي على الشعب؛ بل سلطانها المعنوي الذي يسمح لقراراتها بأن تلاقي المقبوليّة من المجتمع وتصير نافذة. ومعيار هذا النوع من السلطان المعنوي هو ما في المجتمع من قيم الانضباطيّة والامتثال للمصلحة العامة. ومع أن ألمانيا ليست كالصين دولة ذات قدرة ضاربة؛ ومع أن جيشها دون جيشيْ فرنسا وبريطانيا قوّةً، إلا أن تقاليد الدولة فيها عريقة؛ منذ عهد بسمارك.
والعِلمُ ثانيُ اثنين في القوة، والسلاح الأمضى في المعركة ضد الوباء. لا حاجة بنا إلى بيان ما في جعبة الألمان في هذا الباب، يكفي أن نتذكر أن مستوى البحث العلمي ومعدلاته في ألمانيا من الأعلى في العالم (الرابعة بعد الولايات المتّحدة والصين واليابان)، ويفوق إنفاقُها السنوي عليه المئة وعشرة مليارات دولار؛ بل هي قد تكون الأولى في العالم حسب نسبة الإنفاق إلى مجموع السكان. وهناك مجالات علمية تسيطر فيها البحوث العلمية الألمانية مثل علوم الكيمياء والبيولوجيا، دعْك من تفوقها التكنولوجي الساحق، الأمر الذي فَرض، دائماً، النظر إلى المنتوج العلمي والتكنولوجي الألماني باحترام بالغ.
والأهم من ذلك كلِه أن ألمانيا لم تسخّر علومها للصناعات الاستهلاكية فقط (السيارات مثلاً)؛ بل سخّرتها في الميدان الطبي وفي الصناعات الصيدلية. ولأنها تعهدت القطاع الصحي بالتطوير والرعاية، أمكنها أن تواجه جائحة «كورونا» بنجاح إذا قيست بغيرها من دول الغرب. ويكفي أن قوة قطاعها هذا وقدرتَه الاستيعابية دفعت دولة أوروبية -هي فرنسا- إلى إرسال قسمٍ من مصابيها إلى ألمانيا؛ لتلقّي العلاج فيها؛ بعد أن عجزت مراكزُها الاستشفائيّة عن استيعابهم. قد يقال إنه ما من علاج، حتى الآن، لهذا الوباء، لا في ألمانيا ولا في غيرها من بلدان العالم. وهذا صحيح، وهو ليس حجة لا على ألمانيا ولا على الصين؛ بل حجة لهما؛ إذا كان البلدان سيطرا على الوباء (في الصين تحديداً) أو على الوشك من ذلك، وأنْقذا عشرات آلاف أرواح المصابين وقدما شفاء لمعظم الإصابات، من دون لقاح خاص أو عقار خاص، فما ذلك إلا لحيازتهما القدرة العلاجية والاستشفائية الهائلة التي تتيح تسخير الممكن لمغالبة المستحيل. لِمَ، إذاً، أفْلحتا في ما لم يُفْلِح فيه غيرُهما من الدول الغنية والكبرى لو لم يحوزا ذلك النظام الصحي المتقدّم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"