ما بعد جائحة «كورونا»

02:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

ستكون لحظةُ كورونا منعطفاً في تاريخ الحوادث الكبرى، بما ستُطلقه من نتائج على صعيد العالم كلِّه

ستُصبح لحظةُ جائحة كورونا علامةً من العلامات المفْصليّة التي تدخُل في جملةِ وسائل تحقيب التّاريخ. سيكون عالمُ ما بعد كورونا غيرَ ما كانَهُ عالمُ ما قبلَها أو قل، سيختلف عنه بمقدارٍ كبير؛ في البنية والتّوازنات والملامح. لحظةُ كورونا، بهذا المعنى، تُشبه - أو هي تقارِبُ أن تشبه - لحْظات أخرى كبرى في التّاريخ باتت مرجعيّةً في وعينَا التّأريخَي وقياسِ منعطفاته. هي في هذا كأحداثٍ أخرى سبقت مثل: انهيار الإمبراطوريّة الرّومانيّة؛ ومثل انطلاق حركة الإصلاح الدينيّ وما تولّد منها من حروبٍ دينيّة؛ ومثل قيام النّظام الرّأسماليّ وزحفه على العالم؛ ومثل الثّورة الفرنسيّة والثّورة البلشفيّة الرّوسيّة، وكالحربين العالميّتين الأولى والثّانيّة، وانهيار الاتّحاد السّوفييتيّ والمعسكر «الاشتراكيّ»، ثم ميلاد العولمة... إلخ. هي، إذاً، من أمّهات حوادث التّاريخ وظاهراتها التي يتغيّر بها وجْهُ العالم. بل لعلّها تكون أشدّ تأثيراً من غيرها من الحوادث الكبرى المفصليّة التي شهدت عليها البشريّة في العصر الحديث.

على نحو ما قادتِ الحوادثُ الكبرى، المشارُ إليها آنفاً، إلى إحداثِ تحوُّلات هائلة في مجرى التّأريخ وتوازنات اللاّعبين الكبار فيه من دولٍ وجماعاتٍ قوميّة، وفتحت آفاقاً جديدةً للتّطوّر وللعلاقات الإنسانيّة والدّوليّة، وغيّرت نُظُماً سياسيّةً واجتماعيّةً وخرائط جيو - سياسيّة، وأرست قواعدَ ومؤسّسات لإرادة الشؤون الدّوليّة...، كذلك ستفضي جائحة كورونا، بعد انحسارها وزوالها، إلى إطلاق مسلسلٍ من التحّولات الهائلة في الميادين والعلاقات كافّة: في النّظام الاقتصاديّ السّائد في العالم وتوازنات أقطابه الكبار وقواهُ القوميّة والقارّيّة؛ في العلاقات الدّوليّة وسياسات الدّول الخارجيّة وتحالفاتها ومعسكراتها؛ في المؤسّسات الدّوليّة وقواعد عملها القائمة؛ في التّوازنات العسكريّة وفي الرّؤية إلى الأمن القوميّ والدّوليّ ومصادر تهديده؛ في السّياسات الدّاخليّة للدُّول وأولويّاتها الاستراتيجيّة في ميادين التّنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمن والدّفاع، وفي النّظرة إلى استراتيجيّات التّعاوُن والاعتماد المتبادَل في علاقتها - في الوقف عينِه - باستراتيجيّة المنافسة؛ في برامج البحث العلميّ وموقعِيّتِها من السياسات العليا للدّول... وفي ميادين أُخَر لا تُحصى.

وإذا كانتِ التّحوُّلات التي تولّدت من الحوادث التّاريخيّة الكبرى المذكورة مسَّت بالتّغيير ما قبْلَها القريب، فبدَت وكأنّها تُصحِّح مساراً سابقاً وقَعَتْ وقائعُه في نطاقاتٍ ضيّقة: قوميّة (الثّورة الفرنسيّة، الرّوسيّة، انهيار الاتحاد السّوفييتيّ..)، أو قاريّة (الإصلاح الدينيّ، ميلاد الرأسماليّة، الحربان الأولى والثّانيّة...)؛ وإذا كان ما أحدثتْه وقائعُها من تَغْيير طال حقبة زمنيّة محدودة تمتدّ لعقود أو لقرنٍ أو قرنين، فإنّ ممّا قد يتولّد من لحظة كورونا قد يكون أشملَ وأبعدَ مدًى في المكان والزّمان؛ ذلك أنّ مساحتها الكون كلّه لا أبعاضه، ناهيك بأنّ تغييراتها ستطال أنظمةً حياتيّةً، برمّتها، عمّرت لمئات السّنين؛ ربّما منذ فجر العصر الحديث. وبالمعنى هذا، ستكون لحظةُ كورونا منعطفاً في تاريخ الحوادث الكبرى، بما ستُطلقه من نتائج على صعيد العالم كلِّه سيَعَادُ بها النّظر في يقينيّات ومبادئ وقواعدَ ومؤسّسات وعلاقات عدّة سادت عصرَ الإنسان الحديث.

وما من شكٍّ لدينا في أنّ سؤال الصّحّة العامّة، وما يقترن به من أسئلةٍ تتعلّق بالبيئة وبالبحث العلميّ في موضوع الأوبئة، سيكون في صدْر قائمة الأسئلة التي سَيَتَهَجَّس بها العالم بعد جائحة كورونا. لقد ثبت من تجربة الوباء ونتائجه المنهمرة من غيرِ انقطاعٍ، أنّ آثار الأوبئة قد تكون أبعد من آثار الحروب العالميّة نفسِها في الاقتصاد والسّياسة والحياة، وأنّ مواجهتها والتّحسُّب لها وبناء سياسات فاعلة لدفْعها ستكون بمثل مواجهة احتمالات الحروب والتّحسّب لها وكفِّ أخطارها، إن لم تكن أعلى من هذه بكثير. وقد لا يُسْتَبْعَد أن يُصبح الأمن الصحيّ في المجتمعات والدّول أدْعى إلى العناية به من أيّ أمنٍ آخر؛ ذلك أنّه من دون حيازةِ أمنٍ صحيّ - من أخطار الأوبئة - لا مكان للأمن الغِذائيّ والاقتصاديّ والدّفاعيّ سواها من أنواع الأمن الذي اعْتِيدَ على إيلائها الأولويّة الاستراتيجيّة في سياسات الدّول في مضى.

سيكون عسيراً على المرء، اليوم، أن يرسُم لوحةً من التوقّعات أو من السّيناريوهات لِمَا سَيَكُونُه العالمُ غداً، بعد انجلاء جائحة كورونا. لكنّ الذي لا مِرْيَةَ فيه أنّ صورتَه، في المستقبل القريب، لن تُشبه صورتَه التي ألِفْنَاها لردْحٍ من الزّمن طويل. كلّ ما يمكننا أن نبنيّ عليه فرضيّة التّغيير القادم في صورة العالم: في بنيانه وعلاقاته وتوازنات قواه وسياساته...، هو ما بِتْنا نَلْحَظُهُ من علائمَ التّحوّل وأمَارَاته في الكثير من وقائعه وظواهره.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"