«البيداغوجيا» ومستقبل العرب الوجودي

04:18 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

بقيت خيارات النخب العربية توفيقية وتلفيقية في المجال البيداغوجي «التربوي»، على الرغم من منجزات ثورتي التقانة والاتصالات.

منذ ستينات القرن الماضي، حدث انقلاب عربي كبير ضد المقدمات النهضوية الأولى التي عرفها الفكر العربي، والتي أسهم فيها مفكرون كثر، كان لاتصالهم بالمعارف والعلوم الغربية أثر كبير في طرحهم لأسئلة تنويرية لا غنى عنها للتقدم، وتمثل ذلك الانقلاب بحضور مهيمن للأيديولوجيا، باعتبارها رافعة توحيد للشعوب، على المستويين الوطني، والقومي، فقد اعتبرت التيارات القومية، على وجه الخصوص، أن الإعلاء من الشعور القومي هو قاطرة النهوض الداخلي، ورأس حربة في مواجهة أطماع الخارج.

وعلى الرغم من أن الأنظمة القومية/ الأيديولوجية أولت اهتماماً كبيراً بالتعليم، وهو ما يمكن أن تدل عليه، ببساطة شديدة، خريطة النمو في أعداد الخريجين الجامعيين، إلا أن هذا النمو بقي في معظمه كميّاً، وبعيداً كل البعد عن متابعة مسيرة الأسئلة النهضوية الأولى، التي ذهب بعضها عميقاً في قراءة طبيعة المجتمعات العربية، في محاولة أساسية لوضع اليد على المشكلات الكبرى التي تقف في وجه تطوير وتحديث المجتمعات بشكل عام.

والصراع على تفكيك التصورات البيداغوجية (علوم التربية) التقليدية، لمصلحة تصور جديد، وحداثي لدور التربية، هو وليد جدل وصيرورة تنويرية فرضتها العديد من المحطات التي عرفتها أوروبا، لم تنطلق من البحث عن الدور البيداغوجي «التربوي» في المجتمعات، وفقط، وإنما من إعادة بناء تصور للكون والإنسان، ودور العلوم، والعقل، وهو ما أفضى إلى تحرير تدريجي للفكر من هيمنة المنظومات التقليدية، حيث بات بالإمكان الانطلاق من تصور بيداغوجي يقوم على الكائن الحر.

ويعد المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، (1858-1917) أحد أبرز مؤسسي علم الاجتماع الحديث، وربط في تعريفه للتربية بين قضايا عدة، من بينها التصورات السائدة في المجتمع، وأنظمة الحكم، والصناعة، ومستوى الحريات، والوضعية الاجتماعية، وجاء هذا الربط المتعدد لعدد من القضايا في مفهومه للتربية انطلاقاً مما وفرته عصور التنوير السابقة من حضور للفكر العقلاني، خصوصاً عند المفكر الفرنسي رينيه ديكارت (1569-1650)، صاحب المبدأ الفلسفي الشهير «أنا أشك إذاً أنا موجود».

والنقلة الكبرى في فكر ديكارت هي في ربطه بين الوجود، والشك، حيث لم تعد العلوم قائمة على المسلّمات، بل على الشك في المسلمات، حيث ينتفي عالم اليقين لمصلحة العقل الناقد/ النقدي، وقد فتح المبدأ الديكارتي الباب واسعاً أمام تطور العلوم الطبيعية والتجريبية، فلم يعد فهم العالم مسألة ناجزة، وإنما مسألة تحتاج إلى إعمال العقل والتجريب، وإلى تطوير أساليب التعليم نفسها، لكي تتماشى مع التفكير العقلي، والعلمي، ما يجعل من البيداغوجيا قضية رئيسية في النقاش حول كل شيء (أنماط الحياة، آليات التفكير، تحليل الظواهر، كيفية الاستقراء والاستنتاج، وطرق البحث العلمي، وغيرها الكثير من القضايا).

وباعتماد دوركايم على ديكارت، أصبح بالإمكان نقد المفاهيم، وضمناً المفاهيم التربوية، ضمن سياقها التاريخي، أي نزع القداسة عن النصوص التي تأسست عليها التربية التقليدية، وفي عالمنا العربي، هناك العديد من المحاولات الجادة في هذا الاتجاه، لكنها بقيت في الإطار النخبوي، ولم تلقَ دعماً كافياً من القائمين على العمليات التربوية في مراحلها كافة، فتوازنات القوى في المجتمع، والدولة، كانت، ولا تزال، تعيق توسيع رقعة هكذا عملية، من شأنها أن تضع الحدود بين ما هو عقلاني، وما هو غير عقلاني، كي تؤسس أجيالاً قادرة على المضي بخطوات واثقة وراسخة في نهضة العلوم بشكل عام، بالتزامن مع إحداث نقلات نوعية في الوعي الجمعي.

وبقيت خيارات النخب العربية توفيقية وتلفيقية في المجال البيداغوجي «التربوي»، وعلى الرغم من منجزات ثورتي التقانة والاتصالات التي أصبحت في متناول شرائح واسعة من المجتمع، إلا أن النخب غير قادرة بعد على اتخاذ مواقف حاسمة تجاه تأكيد الاتجاهات العقلانية في التفكير، وفي المناهج، مع أننا شهدنا، خلال العقد الأخير، ارتدادات مجتمعية غير عقلانية، خصوصاً في المنحى الأيديولوجي، مع استعادة واسعة للماضوية في السياسة، كأننا لم نراكم أي منسوب معقول من الرؤية التحليلية، التي يفترض أن تكون المناهج التربوية والتعليمية قد كوّنتها.

ومن دون رؤية مختلفة إلى التكوين البيداغوجي في المناهج، تقوم على اعتبار الحرية هي الأساس، وأن العقل والعقلانية يستدعيان تحليل المفاهيم كافة، انطلاقاً من الشروط الموضوعية للتاريخ، وانحياز النخب إلى المعرفة الحديثة غير التوفيقية مع الماضي، من دون ذلك كله، فإن مستقبل العرب سيبقى دورات متتالية من النكوص نحو الوراء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"