«خطايا» كلينتون المغفورة

04:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

سيطر، ومازال يسيطر على معارفنا السياسية، ومدارسنا الفكرية، تصور تقليدي، يعزو نجاح المشروع الصهيوني في إقامة دولة له في فلسطين، وفي استمرار ما يلاقيه من دعم أمريكي غير مشروط، وغربي بدرجات مختلفة، إلى عدة عوامل، من أهمها: العبقرية اليهودية في الاقتصاد والدبلوماسية الفذة للقادة الأوائل، ودقة التنظيم وسعة انتشاره في الساحات الدولية، وجماعات الضغط (اللوبي)، ومنظومات التمويل السخي، والصوت الانتخابي النشط، والآلة الإعلامية النافذة، وتوافق المصالح بين المشروع الصهيوني، والسياسات الإمبريالية الكلاسيكية والقوى العالمية المهيمنة.

- لكن هذه العوامل وغيرها، على أهميتها البالغة، ليست القراءة الوحيدة لهذا النجاح، ولا تفسر وحدها الظواهر والمعاني الآتية:

معنى أن يكون الشعار المعروف «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» هو من صنع غير اليهود، وقد طرحه سياسيون وقساوسة بريطانيون على مؤتمر لندن عام 1840، أي قبل نحو نصف قرن من ولادة الحركة الصهيونية السياسية.

معنى أن تنشئ أموال غير يهودية أول مستوطنات يهودية في فلسطين، في منتصف القرن التاسع عشر، وأن يتبارى نبلاء بريطانيون وعائلات ثرية قبل عائلة روكفلر المسيحية في دعم الاستيطان وتشجيعه.

معنى أن يؤسس غير اليهود أول جماعة ضغط (لوبي) في أمريكا، تسمى (البعثة العبرية نيابة عن «إسرائيل») لصالح دعم إقامة وطن قومي لليهود في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في وقت كانت فيه أغلبية الجماعات اليهودية غير راغبة في الهجرة إلى فلسطين، ومُعرضة عن الفكر الصهيوني الحركي السياسي، وراغبة في الاندماج في مجتمعاتها.

معنى أن يُوقِّع رئيس مجلس النواب الأمريكي، وأعضاء كثيرون من «الكونجرس»، ورجال أعمال وقساوسة، على عريضة قدمت إلى الرئيس الأمريكي عام 1891، قبل مؤتمر «بازل الصهيوني الأول» تأييداً لإقامة دولة يهودية في فلسطين.

معاني أحاديث الرئيس الأمريكي الأسبق ويلسون عن «ضرورة استعادة اليهود للأرض المقدسة» وموافقة «الكونجرس» عام 1922 على «وعد بلفور»، وكان عدد من الأعضاء يستشهدون بنصوص توراتية تؤيد «إعطاء اليهود الفرصة لإعادة تأسيس وطن قومي على الأرض اليهودية القديمة».

- وكان كل ذلك يجري، في وقت لا حاجة لأي عضو في الكونجرس للأصوات الانتخابية اليهودية، ولا للمال اليهودي، وفي غياب «اللوبي» اليهودي الذي لم يتأسس إلاَّ في العام 1954.

تذكرت، قصة اعتراف الرئيس الأمريكي ترومان ب «إسرائيل» حتى قبل أن تطلب منه ذلك حكومة «إسرائيل» المؤقتة بشكل رسمي في العام 1948، ولا أذكر أني عثرت على تفسير لهذا الاعتراف العجول، وبخاصة في غياب أي تأثيرات انتخابية أو مالية أو ضغوط سياسية.

لكن ما يثير الدهشة، معرفة خلفية ترومان الدينية التوراتية، حيث تشير قصة حياته الشخصية إلى أنها كانت حافلة بالإشارات المؤيدة لوطن قومي لليهود في فلسطين، ويقول الرئيس ترومان عن نفسه: «إنني قورش»، أي الملك الفارسي الذي أعاد «يهود السبي» من بابل إلى فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد أثنت كتب «العهد القديم» على قورش.

وفي عصرنا الراهن، عجزت عن تفسير ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، ونشرته وكالات الأنباء والصحف العالمية، في أثناء زيارة له إلى «إسرائيل» في الفترة الأولى لحكم نتنياهو. قال كلينتون: إن قسيساً ذكر له، قبل أن يتولى الرئاسة في البيت الأبيض، أنه سيكون له شأن عظيم، وسيغفر الله له كل خطاياه، إلاَّ الخطايا التي يرتكبها تجاه «إسرائيل».

ومثل هذه المعاني والأقوال ترددت في خطب ومواقف رؤساء من أمثال كارتر وبوش الابن، وأخيراً وليس آخراً الرئيس ترامب.

يقول الكاتب ستيفن سايزر، راعي كنيسة المسيح في فرجينيا واترسري ببريطانيا، ورئيس جمعية الكتاب المقدس الدولية، في دراسة له نشرها في العام 2004 في بريطانيا، بعنوان Christian Zionism

،أي (الصهيونية المسيحية): «إن الحركة الصهيونية المسيحية، هي أكبر بعشرات مرات من الحركة الصهيونية اليهودية، وقد تمكنت من أن تصبح «لوبياً» طاغياً في السياسة الأمريكية المعاصرة».

ويضيف قائلاً: «لقد سبقت هذه الحركة، من خلال دعمها الناشط والفعال لعودة اليهود إلى فلسطين، قيام الصهيونية السياسية بنحو قرن من الزمان».

وتقوم هذه الحركة على بدع لاهوتية أساسها قراءة حرفية ومستقبلية للكتاب المقدس، ولئن كانت متجذرة في الإصلاح الديني البروتستانتي إلا أنها في أساسها نتاج التيارات الألفية « في القرن التاسع عشر»، وهي تيارات لاهوتية تؤمن بمملكة حرفية تدوم ألف سنة على الأرض، تلي مجيء المسيح الثاني الفجائي، ويصبح اليهود جزءاً من الكنيسة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"