أنعم الله تبارك وتعالى على هذه الأمة عندما جعل وسطيتها إرادة إلهية، وليست مجرد خيار إنساني لما هو مباح من الأمور «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً»، (سورة البقرة: 143).
يذكر المفكر الإسلامي الراحل الدكتور محمد عمارة، رحمه الله، في كتابه «حقائق وشبهات حول السنة النبوية» أن هذه الأمة تميزت بالوسطية في التعامل مع الحديث والسنة النبوية، وتميزت هذه الوسطية «في النسق الفكري الإسلامي» بأنها العدل المتوازن، والتوازن العادل، وأنها تبرأ من الإفراط والتفريط، فهي تجمع من طرفي الغلو عناصر الحق ومكونات العدل، لتكون هذه الوسطية الإسلامية الجامعة موقفاً ثالثاً، هو اعتدال بين طرفين، وتوازن بين خللين، وعدل بين ظلمين، وحق بين باطلين، وهو المعنى الذي أصاب لبه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عرف فيه هذه الوسطية عندما قال: «الوسط: العدل، جعلناكم أمة وسطاً».
فالوسطية «في الفكر والسلوك» هي منظار الرؤية الإسلامية لكل شؤون الدين والدنيا.. والغلو «بطرفيه» هو سبيل المتنكبين سبيل المؤمنين بالإسلام، ولقد كان «ولا يزال» هذا الحال هو حال الناظرين والمتعاملين مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ضل منهم أولئك الذين غالوا في تعاملهم مع مأثورات السنة ومروياتها، إفراطاً أو تفريطاً، واهتدى الذين اتخذوا منها الموقف الوسطي، المتسم بالتوازن والعدل والاعتدال.
تمييز لابد منه
لقد تميزت النظرة الأصولية الوسطية للسنة النبوية بالتمييز «في مرويات هذه السنة ومأثوراتها» بين الأحاديث المتواترة وأحاديث الآحاد.. والتمييز في كتب السنة بين الصحاح التي وضع جامعوها شروطاً للصحة رفعت من درجات الاطمئنان للمرويات، وبين تلك الكتب التي جمع أصحابها كل المرويات، تاركين التدقيق والفرز للعقل الناقد، وفق قواعد علم الجرح والتعديل للرواة ولمتون ومضامين المرويات.
والتمييز في مضامين المرويات بين «العقائد» التي لابد من أخذها عن النصوص قطعية الثبوت وبين «الأمور العملية» التي تحولت إلى واقع مارسه الناس والتي يمكن أخذها عن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت.
كذلك، ميز هذا المنهاج الوسطي، في التعامل مع السنة النبوية، بين السنة النبوية، التي جاءت بياناً نبوياً للبلاغ القرآني، والتي هي لذلك دين ثابت، اكتسبت وضع الدين الإلهي من مجيئها بياناً للوضع الإلهي «أي الدين» وسنة العبادة، التي جاءت تفصيلاً لمجمل القرآن الكريم، وتجسيداً للمناسك والشعائر التي تمثل طاعة العباد للمعبود، وآيات إسلام المسلمين الوجه لله.. والتي هي لذلك دين خالد، ومطلق ديني، لا زيادة فيها ولا نقصان منها، ولا تغيير لها ولا تبديل، مهما تغاير الزمان أو اختلف المكان، أو تبدلت العادات والأعراف.
وأيضاً السنة التشريعية، التي مثلت أحكاماً جاءت بها الأحاديث النبوية في المعاملات الدنيوية الثوابت، المرتبطة بمنظومة القيم الثابتة، وبالفطرة الإنسانية السوية، التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان.
ثوابت ومتغيرات
ولقد ميز المنهاج الإسلامي الوسطي بين أنواع السنة هذه التي هي دين مطلق وخالد، لأنها البيان النبوي للبلاغ القرآني الذي هو جماع الدين، وبين ألوان من السنة النبوية، مثلتها أحاديث تعلقت ب: سنة العادة، التي فعلها أو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعادات وأعراف اجتماعية بيئية، أو لجبلة إنسانية، أو لحب أو كره في مقومات حياته كإنسان، والسنة غير التشريعية، التي مارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نطاق الاجتهاد «غير المعصوم» في المتغيرات الدنيوية، المعللة بحكم ومقاصد بتغير الوسائل المحققة لهذا الحكم وهذه المقاصد، والتي تتعلق أساساً بالسياسات والمعاملات في التفاصيل والفروع «أي في الفقهيات» والسنة التي مثلت خصوصيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتي نص القرآن الكريم، أو نبه الرسول في الأحاديث، على أنها من خصوصياته التي لم يلزم بها أمة الإسلام.
ويؤكد شهاب الدين أحمد بن إدريس في كتاب «الإحكام في التمييز ما بين الفتاوى والأحكام» على أن المنهاج الإسلامي الوسطي ميز في التعامل مع السنة النبوية «في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه» بين العبادات الثوابت، وبين المعاملات المتغيرة، فالأولى الاقتداء فيها والتأسي هو تعبد وعبادة، والثانية لا ثبات فيها للوسائل ولا قداسة فيها للآليات، وإنما الدين فيها هو تحقيق المقاصد التي تتغيا المصالح الشرعية المعتبرة للعباد.
وميز أيضاً هذا المنهاج الوسطي، فيما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين ما تركه لأنه منهي عنه ديناً، وبين ما تركه لعدم ظهور ما يقتضيه في عصره، فباب الفعل لهذا المتروك مفتوح عندما تطرأ «مع العصور المتلاحقة» مقتضيات الفعل لهذه المتروكات.
وتلك مجرد معالم ونماذج، للمنهاج الوسطي في التعامل مع السنة النبوية، وهو المنهاج الذي ساد طوال عصور الاجتهاد الإسلامي، والتي دونت فيها السنة، وقامت فيها علومها كسمة بارزة في علوم الحضارة الإسلامية.
غلو مرفوض
لكن الفكر الإسلامي «في عصر التراجع الحضاري.. وفي عصر التغريب» أي في حقب «التقليد الموروث» و «التقليد الحداثي» قد ابتلي بالانحراف عن هذا المنهاج الوسطي في التعامل مع السنة النبوية.
فوجدنا من أهل «التقليد للموروث» من لا يميزون بين ألوان المأثورات والمرويات، فيلزمون أنفسهم ويلزمون الأمة بما لا يلزم «وهذا هو غلو الإفراط» ووجدنا من أهل «التقليد الحداثي» من يهدرون كل المرويات، بدعوى «التاريخية» أو «التاريخانية»، التي تربط كل النصوص بالزمن الذي ظهرت فيه، والملابسات التي صاحبت نشأتها الأولى، وذلك من دون تمييز في هذه النصوص بين أقسامها التي تحدث عنها علماء الأصول، حتى لقد جعلوها «علماً» أفردوا له المؤلفات.
إنهم لم يميزوا بين السنة التي هي دين ثابت، لتعلقها بالبلاغ القرآني والثوابت الدينية «في العقائد والعبادات والقيم وثوابت المعاملات وفلسفات التشريع ومبادئه وقواعده» وبين السنة التي هي فقه الواقع النبوي المتغير، ومثلها سنن العادات والخصوصيات النبوية، فمثلوا غلو التفريط، كما مثل أهل «التقليد للموروث» غلو الإفراط.
لقد أراد الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن تكون وسطاً، عدلاً، متوازناً، وذلك حتى تحقق شهادتها على حضارات الغلو «غلو الإفراط والتفريط»، وإذا كانت حياتنا الفكرية الحديثة والمعاصرة تعاني من الاستقطاب الحاد بين الغلاة، في الموقف من السنة النبوية الشريفة، فإن الحاجة تتزايد إلى تقديم الفكر «الأصولي الوسطي»، الذي يقدم للباحثين والقراء معالم المنهاج الوسطي في التعامل مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك تعميقاً لمعالم هذا المنهاج الوسطي، الذي هو وحده منظار الرؤية الإسلامية الخالصة، وأيضاً لدعوة الغلاة من أهل «التقليد للموروث» ، و«التقليد الحداثي» إلى كلمة سواء.