رب المشارق والمغارب

القسم الإلهي
02:59 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.
يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.
قال تعالى: «فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ».
ورد هذا القسم في الآيات من الأربعين وحتى الثانية والأربعين من سورة المعارج، وهي التاسعة والسبعون في ترتيب النزول والسبعون بالمصحف، وهي مكية وآياتها أربع وأربعون آية.
ويقول ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»: أقسم سبحانه برب المشارق والمغارب، وهي إما مشارق النجوم ومغاربها، أو مشارق الشمس ومغاربها، وأن كل موضع من الجهة مشرق ومغرب، فلذلك جمع في موضع، وأفرد في موضع، وثنى في موضع آخر، فقال في سورة الرحمن: «رب المشرقين ورب المغربين» فقيل: هما مشرقا الصيف والشتاء، وجاء في كل موضع ما يناسبه، فجاء في سورة الرحمن «رب المشرقين ورب المغربين»، لأنها سورة ذكرت فيها المزدوجات، فذكر فيها الخلق والتعليم، والشمس والقمر والنجوم والشجر، والسماء والأرض والحب والثمر، والجن والإنس، ومادة أبي البشر وأبي الجن، والبحرين، والجنة والنار، وقسم الجنة إلى جنتين عاليتين وجنتين دونهما، وأخبر أن في كل جنة عينين، فناسب كل المناسبة أن يذكر المشرقين والمغربين.
وأما في سورة المعارج، فإنه أقسم سبحانه على عموم قدرته وكمالها، وصحة تعلقها بإعادتهم بعد العدم، فذكر المشارق والمغارب بلفظ الجمع؛ إذ هو أدل على المقسم عليه، سواء أريد مشارق النجوم ومغاربها، أو مشارق الشمس ومغاربها، أو كل جزء من جهتي المشرق والمغرب، فكل ذلك آية ودلالة على قدرته تعالى على أن يبدل أمثال هؤلاء المكذبين، وينشئهم فيما لا يعلمون، فيأتي بهم في نشأة أخرى، كما يأتي بالشمس كل يوم من مطلع، ويذهب بها من مغرب.
وأما في سورة «المزمل» فذكر المشرق والمغرب بلفظ الإفراد، لما كان المقصود ذكر ربوبيته، ووحدانيته، وكما أنه تفرد بربوبية المشرق والمغرب وحده فكذلك يجب أن يتفرد بالربوبية والتوكل عليه وحده، فليس للمشرق والمغرب رب سواه، فكذلك ينبغي ألا يتخذ إله ولا وكيل سواه، وكذلك قال موسى لفرعون حين سأله في سورة الشعراء:«وما رب العالمين»، فقال: «رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون»، وفي ربوبيته سبحانه للمشارق والمغارب تنبيه على ربوبيته للسماوات وما حوته من الشمس، والقمر، والنجوم وربوبيته ما بين الجهتين، وربوبيته الليل والنهار وما تضمناه، ثم قال: «فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين»، أي لقادرون على أن نذهب بهم ونأتي بأطوع لنا منهم وخيراً منهم، كما قال تعالى في سورة النساء: «إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً، وقوله في سورة الواقعة:»وما نحن بمسبوقين«، أي لا يفوتني ذلك إذا أردته ولا يمتنع مني.
وقد وقع الإخبار عن قدرته سبحانه على تبديلهم بخير منهم، وفي بعضها تبديل أمثالهم، وفي بعضها استبداله قوماً غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، فهذه ثلاثة أمور يجب معرفة ما بينها من الجمع والفرق؛ فحيث وقع التبديل بخير منهم فهو إخبار عن قدرته على أن يذهب بهم، ويأتي بأطوع وأتقى له منهم في الدنيا.
ثم استدل سبحانه بالنشأة الأولى فذكرهم بها فقال في سورة الواقعة:»ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون«، فنبههم بما علموه وعاينوه على صدق ما أخبرتهم به رسله من النشأة الثانية.
يقول محمد هشام الشربيني في كتابه»بهذا أقسم الله»: والأمر ليس في حاجة إلى قسم. ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب، يوحي بعظمة الخالق. والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح..كما أنها قد تعني المشارق والمغارب المتوالية على بقاع الأرض في كل لحظة. وأياً كان مدلول المشارق والمغارب، فهو يوحي إلى القلب بضخامة هذا الوجود، وبعظمة خالقه، فهل يحتاج أمر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلى قسم برب المشارق والمغارب، على أنه سبحانه قادر على أن يخلق خيراً منهم وأنهم لا يسبقونه، ولا يفوتونه ولا يهربون من مصيرهم المحتوم.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"