تاريخ من الانقسام

02:40 صباحا
قراءة 5 دقائق
يونس ناصر

لا يزال مصطلح «قصيدة النثر» ينطوي على اشتباك تنظيري، ما أدى إلى استمرار وتكريس انقسام الآراء بشأنه، من حيث الرفض والقبول، والمعارضة والتأييد، بين القراء والنقاد والشعراء، وكل فريق له تبريراته الفنية والتاريخية التي يتحصن بها، بلغت أحياناً حدّ التعصب والانغلاق. ونظراً لعدم الدقة في استخدامه بحيث يبدو ليس شفافاً، فإنه يظل بحاجة ماسة إلى تأطير مفاهيمي يُبعده عن منطقة الغموض أو الإبهام أحياناً، الذي يكتنف استخدامه، ويُخرجه من تهمة «التباس القصد» في المزج وليس الصهر بين الشعر والنثر، إلى وضوح الدلالة ودقة الاستعمال.

من المبررات التي قيلت في مناصرة «قصيدة النثر» أن بناءها الفني انسحب من الإيقاع الخارجي المسبق إلى الإيقاع الداخلي للغة واكتشاف مكنوناتها الأدائية، وخلق علاقات لغوية جديدة، لعوالم بكر وغير محروثة، بينما واقع الحال أن بحور الشعر العربي «قُنِّنت» بعد اكتشافها و«ليس اختراعها» على يد الفراهيدي.

وعلى الرغم من جانب الدقة في هذا الطرح، فإنه يمكننا هنا أن نؤكد بوضوح أن الشاعر العربي في الجاهلية لم يكن يستخدم إيقاعات موضوعة ومعترفاً بها سابقة عليه، ما يؤكد أيضاً أن الشعر هو إيقاع نفسي داخلي، وليس إيقاعاً مسبقاً وجاهزاً يستخدمه الشاعر ليبني قصيدته وفق ذلك.

إن العرب لم يكونوا يعرفون بحور الشعر عندما «قالوا» قصائدهم، سواء ما هو من نتاج لحظته الموجبة وأثره الآني، أو القصائد المعروفة بالحوليات؛ ذلك أن الشاعر العربي لم يكن يكتب: مستفعلن فاعلن، أو فعولن مفاعيلن.. بل لم يكن يعرفها قط، ولم ترد في حسبانه بتاتاً، ولم نقرأ في ما وصلنا من آراء نقدية كانت تفاضل بين مستويات الشعراء وشعريتهم أن أحدهم اعتمد هذا المعيار الفني في المفاضلة، وإنما ذهبوا إلى المخيلة والصورة واللغة، والقيم والمعاني التي كان متفقاً عليها في المجتمع العربي آنذاك، حتى بين القبائل المتحاربة.

وليس من النافلة، القول إن العرب قد فرقوا بين الشعر والنثر؛ بل لقد فعلوا ذلك بمنتهى الدقة والموضوعية، وليس المزاجية. فقد استخدموا السجع لكونه نوعاً من النثر معروفاً بخصائصه وأنواعه، وهو جمل مقفاة سُميت بهذا الاسم تشبيهاً لسجع الحمام، وكذلك الرجز، وهو إيقاع يحاكي مشي الناقة، وعرف المجتمع العربي فن الخطابة، وهو فن يتميز بالجزالة وقوة البيان يقترب أحياناً من الأداء الشعري، كما فرّق العرب بين أنواع الشعر، فمنه الغنائي والقصصي والتمثيلي ولاحقاً التعليمي، كألفية ابن مالك، كما فرقوا بين البحور من حيث تعبيرها عن الحالة النفسية، ونوع الحدث والمؤثر أو الدافع، فكان للغزل إيقاع، وللحماسة إيقاع، وللحزن إيقاع، وللفرح إيقاع..

اكتشاف

وفي العصور اللاحقة كان بعض النقاد؛ بل حتى الخلفاء، يمتحنون الشاعر بأن يطلبوا منه أن يعبر أمامهم ارتجالاً عن المعنى نفسه على «بحر» وقافية مختلفين، وهذا اختبار صعب جداً، ومحك حقيقي صارم لموهبة الشاعر. وهذا ينقلنا طبعاً إلى مستوى آخر من المقاربة، هو أنه من المعروف أن الأخفش «اكتشف» بحراً جديداً سمي بال«متدارك»، وجاء الاسم لتداركه على بحور الفراهيدي. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا لو لم يكتشف الأخفش إيقاع بحر المتدارك؟

أما كان أدى ذلك إلى تحييد كل القصائد العربية التي هي على هذا البحر، ولما وصلنا منها شيء على اعتبار أنها ليست من الشعر العربي، أو خارجة عنه؟ أو لم يكتشفه الفراهيدي؟.

وقصة أبي العتاهية مشهورة عندما نظم شعراً، فقيل له إنه خرج عن العروض، فقال: أنا سبقت العروض، بمعنى أنه شاعر له إيقاعه الخاص قبل أن يكتشف الفراهيدي العروض ويضع «قوانينه» الشعرية هذه، على الرغم من أن أبا العتاهية عاصر الفراهيدي وتوفي بعده بقليل.

وهذا يؤكد أن «القريحة» العربية كانت تميل إلى التجديد والإضافة، خاصة في العصر العباسي وما بعده، وشاهدها بديع أبي تمام ومحسناته اللفظية التي لقيت رفضاً في بادئ الأمر، ما أدى إلى نشوء «معارك أدبية» ليس مجالها هذه المقاربة.

صفحة جديدة

بعد هذه التوطئة التي نجد أنها ضرورية في هذا المقام والمقال، نفتح صفحة من التراث الشعري المعاصر لنجد أن مصطلح «قصيدة النثر» جاء بعد أكثر من عقد من قيام السياب، وجيل الرواد، بالتمرد على الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية، ما أعطى حرية للشاعر لتجاوز «الحشو»، وتجاوز الأداء «البندولي»، وكسر الرتابة في عدد تفعيلات البيت الشعري، وفتح الفضاءات للانطلاق نحو ريادة عوالم لم يكن الشكل القديم يسمح بها أبداً، رغم «تكرارية» بناء القصائد العمودية بأن يكون كل بيت قائماً بذاته، ولكن ليس لذاته، من حيث المبنى والمعنى، ويكون متصلاً بما قبله مهيئاً لما بعده، معنى ومبنى كذلك، مع اختلاف الشعراء في المستويات، وذلك يرتكز على موهبة الشاعر وقدرته وثقافته.

وكان من أبرز رواد قصيدة النثر العرب، أنسي الحاج، ومحمد الماغوط، ومحمد عفيفي مطر، وأدونيس، وفي تجربة الأخير مفارقتان؛ الأولى أنه ترجم مجموعة شعرية لسان جون بيرس وبناها على التفعيلة العربية، والأخرى أن الناقد والشاعر علي العلاق قام بإعادة ترتيب إحدى قصائد أدونيس تتكون من ثمانية أبيات، ووجد أنها موزونة على بحر البسيط.

وفي العراق برزت «جماعة كركوك» التي تكوّنت في الستينات، ومن أهم أسمائها جليل القيسي، وسركون بولص، وفاضل العزاوي، وجان دمو، وأنور الغساني، ومؤيد الراوي، وصلاح فائق، ويوسف الحيدري، ويوسف سعيد، ومعهم حسين مردان ورفائيل بطي، وآخرون. ولكنها كانت تجارب تأخذ مسارها من دون الصدام مع التجارب الأخرى، واستطاعت أن تشكل حضورها في مسيرة الشعر العراقي، على الرغم من مجايلتها لجيل الستينات من شعراء التفعيلة، أو ما اصطلح عليه «الشعر الحر»، الذين كان لهم حضور كبير ومؤثر في الساحتين الإبداعية والإعلامية، امتداداً للسبعينات وبداية نضوج تجربة شعراء السبعينات، أو ما كانوا يعرفون بجيل الشباب.

وبالتشكل نفسه يأتي دور جيل السبعينات الذي كتب قصيدة النثر تأثراً بالشعر الغربي أداءً وشكلاً ومضامين، خاصة خزعل الماجدي الذي وضع مقدمة لكل أجزاء قصيدته المطولة (خزائيل) وهي عبارة عن مقطع لرامبو يقول فيه: «استفاق النحاس فوجد نفسه بوقاً»، وكذلك الشاعر زاهر الجيزاني، واللذين تصدّيا لما شكّله جيل الستينات من مصدات أمام طروحاتهما «الشعرية التجديدية»، ولحق بهما الشاعر كمال سبتي من الجيل نفسه، وآخرين أقل تأثيراً.

ظل شعراء قصيدة النثر أمناء على نهجهم، مخلصين لتجاربهم، ويجتهدون في مشروعهم من دون ضجيج، سواء من داخل العراق أو خارجه، وأثبتوا حضورهم في الساحة الأدبية، ويضيق المجال عن ذكر أسمائهم، ولكنهم شكلوا تياراً متدفقاً تناول النقاد تجاربهم في كتب منفصلة، ورسائل ماجستير في عدد من الجامعات العراقية، ومن تلك الأسماء داخل العراق الشاعر رعد فاضل الذي صدرت له العديد من المجاميع الشعرية منها «فليتقدم الدهاء إلى المكيدة»، و«شذرات حكمة ضالة»، وغيرهما، وتناول تجربته الناقد الدكتور محمد صابر عبيد في كتاب بعنوان «القصيدة الرائية: قراءة في شعرية رعد فاضل»، عن دار تموز دمشق 2011.

هناك العشرات من الشعراء والشاعرات العراقيين المبدعين يكتبون قصيدة النثر، سواء منهم الذين ظلوا داخل العراق أو خارجه، جنباً إلى جنب مع شعراء التفعيلة، والقصيدة العمودية، ببناء وأداء جديدين، بحيث يصعب معه التفضيل من الناحية النقدية الموضوعية بين هذه الأشكال الشعرية الثلاثة، إلا بالقدر الذي تسمح به موهبة كل شاعر

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"