صبرة المنصورية.. وجهة العلماء والطلاب

أسهمت في تطور الفنون العربية الإسلامية
03:27 صباحا
قراءة 3 دقائق


توفي القائم ابن المهدي في رمضان 334ه، واستلم الحكم ابنه أبوالطاهر إسماعيل، فكتم موت أبيه كي لا يطمع فيه أبويزيد بن مخلد بن كيداد النكاري الخارجي، وحفاظاً على معنويات جنده، الذين كانوا يحاربون أبا يزيد مخلد بن كيداد، وفي عام 335 ه انتصر إسماعيل في موقعة «المشاعل» قرب القيروان في تونس، فأضفى عليه هذا الانتصار لقب «المنصور بالله»، وأمر بعمارة مدينة في المكان الذي انتصر فيه على أبو يزيد، وسماها «صبرة المنصورية»، وأمر بإحكام سورها، ورفع بنيانها، فجعلت مدورة مثل بغداد، وبنيت دار الأمير وسطها، وكذلك المسجد الجامع، وبنيت جدرانها بالآجر المكحل بالجير، وكانت منفصلة عن القيروان.
ويذكر الدكتور علي محمد الصلابي فى كتاب «الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي». أنه في عام 337ه انتقل المنصور إلى عاصمته الجديدة «صبرة المنصورية»، ومعه ولي عهده أبو تميم المعز لدين الله وخواص دعاته وأوليائه وسائر أهله وولده، فجعلها مسكناً له، وأقام في قصره، واستمر في توسيعها وتحسينها، ونقل إليها شيئاً فشيئاً مختلف المصالح الإدارية من «المهدية»، كما نقل إليها أسواق مدينة القيروان وأرباب الصناعة فيها، ولم تلبث أن شهدت تطوراً كبيراً، لا بوصفها عاصمة سياسية ومدينة ترفيهية فحسب، بل باعتبارها مركزاً إدارياً ومدينة تجارية أيضاً، وأصبحت على جانب كبير من التقدم.
ولعل السبب في بناء المنصور لعاصمته الجديدة مجاورة تماماً للقيروان، وبينهما عرض الطريق، يعود إلى رغبته في أن تبقى القيروان وأهلها تحت بصره ومراقبته الشديدة لهم، فلا يتمكنون من الثورة ضده، أو مناصرة أي خارج عليه، لذلك ربط المنصور سور المنصورية بسور القيروان بواسطة فصيل، فلا تدخل بضاعة ما إلى القيروان إلا من خلال الفصيل، وذكر أنه نقل أسواق القيروان إلى صبرة المنصورية، فكان الناس يعملون نهاراً في المنصورية ويعودون ليلاً إلى القيروان، وهم مجبورون على اجتياز الفصيل.


مركز الخلافة


وصف الرحالة المقدسي مدينة صبرة المنصورية العاصمة الفاطمية الثانية بعد المهدية، بأنها مدوّرة مثل الكأس لا يرى مثلها ودار السلطان وسطها والماء يجري وسطها، شديدة العمارة حسنة الأسواق بها جامع السلطان وعرض سورها 12 ذراعاً منفصلة عن العمارة، وتجارها يغدون ويروحون إليها على حمير والأبواب كلها محددة الحيطان، وكأن المنصور أبا الطاهر إسماعيل اختط أحسن بلد في أسرع أمد، وانتقل إليها حسب رواية القضاعي عند صلاة الظهر من يوم الخميس لليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة 336ه، وعمّر المنصور أسواقها واستوطنها، وأصبحت مركز الخلافة الرسمي، منها تصدر الأوامر، وتخرج الجيوش الفاتحة، وإليها تأتي الوفود لتقديم فروض الطاعة والولاء.
وعندما توفي المنصور سنة 341ه /‏ 952م، دفن في قصره بالمنصورية، ثم قام بالأمر بعده ابنه وولي عهده المعز لدين الله فسار على نسق أبيه وأصبحت المنصورية في عهده وجهة العلماء، والطلاب، بعد أن نقل إليها أسواق القيروان كلها، وجميع الصناعات. كان المعز لدين الله شغوفا بالعمارة فبنى كثيراً من القصور، وأنشأ البساتين وأجرى مياه العيون في حاضرة ملكه. ومن القصور التي بناها قصر الإيوان والمعزية. وبنى قناطر ساق الماء عليها، وقصره المعروف بالبحر، وارتاد موضعه وقاس أبعاده ووضع تصميمه بنفسه وأنشأ في وسطه بركة كبيرة أسماها بحراً لاتساع سطحها. وأقام المعز الجسور لتصل القصر الداخلي بالقصر الخارجي، وأنشأ البساتين الغناء في المنصورية وضواحيها، ومن هذه البساتين ذلك البستان الذي أقامه في جهة تعرف «بواد القصارين» على مقربة من المنصورية، وأجرى فيه النهر حتى أينع بأصناف الشجر والرياحين والخضر والنوار وصار أحسن بستان رآه الناس.


الفن الفاطمي


تناولت عديد المصادر والمراجع الحديث عن سبب تسمية الموقع، البعض يطلق عليه اسم المنصورية والآخر صبرة وثالث يجمع بين هذه وتلك. المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» لا يتحدث إلا عن صبرة ولا يذكر المنصورية فيقول مثلا: «وصبرة بناها الفاطمي أول ما ملك الإقليم واشتق اسمها من صبر عسكره في الحرب»، ويقول أيضا: «وأما إفريقية فقصبتها القيروان ومن مدنها صبرة»، ويذهب مذهبه الإدريسي. ولعبت صبرة المنصورية دوراً كبيراً وأسهمت في تطور الفنون العربية الإسلامية ما جعلها تؤلف لنا صورة عن نشأة الفن الفاطمي الإفريقي قبل رحيله إلى الشرق، وتجعل منه نموذجاً آخر للخلق والإبداع وتشهد بالمقدرة والكفاءة للفنان والصانع الإفريقي، كلما سنحت الفرصة بذلك وتهيأت الأسباب المادية والمعنوية. دمرت«القيروان» و«المنصورية» بأوامر«المعز بن باديس» عام 449ه، كي لا يبقى فيهما ما يطمع قبائل الأعراب بهما، فيسلم هو وجنوده.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"