السماء

03:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.
يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.
قال تعالى «والسماء ذات البروج* واليوم الموعود* وشاهد ومشهود* قُتل أصحاب الأخدود* النار ذات الوقود* إذ هم عليها قعود* وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود* وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد* الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد». (البروج،1-9).
ورد هذا القسم في فاتحة سورة البروج، وهى السابعة والعشرون في ترتيب النزول والخامسة والثمانون في ترتيب المصحف الشريف. هذه السورة القصيرة تعرض حقائق العقيدة، وقواعد التصور الإيماني وتمجد الثبات على الحق، وتبصر المؤمن بنصر الدنيا ونعيم الآخرة، وتهدد الجبارين المعتدين بنقمة الله ولعنته في الدنيا والآخرة.
يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات الكواكب والنجوم الكثيرة، التي تنتشر في أرجائها، وبيوم القيامة، وبالشاهد والمشهود، والشاهد هو الملائكة تشهد على الناس يوم القيامة، والمشهود عليه هو الخلائق أو الأنبياء يشهدون على أممهم يوم القيامة، أو بجميع ما خلق الله في هذا الكون مما يشهده الناس، ويرونه رأي العين. وسبحانه أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة.
يقول محمد هشام الشربينى فى كتابه «بهذا أقسم الله»: تتحدث السورة عن حادث أصحاب الأخدود، وهم قوم كافرون ذوو بأس وقوة، رأوا قوماً من المؤمنين فغاظهم إيمانهم، فحملوهم على الكفر فأبوا، فشقوا لهم شقاً في الأرض وحشوه بالنار، وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق.
وتبدأ السورة قبل الإشارة إلى حادث الأخدود بهذا القسم بالسماء ذات البروج، وهي إمّا أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة، أي قصورها المبنية، وإما أن تكون هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، والإشارة إليها توحي بالضخامة، وهي الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو.
وقوله عز وجل «واليوم الموعود» وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا وتصفية حساب الأرض وما كان فيها، وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه، ووعد بالحساب والجزاء فيه، «وشاهد ومشهود»، أي أنه في ذلك اليوم تعرض فيه الأعمال، وتعرض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين. وتلتقي السماء ذات البروج، واليوم الموعود وشاهد ومشهود جميعاً في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود. كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث، وتوزن فيه حقيقته ويُصفىّ فيه حسابه، وهو أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود.
وفى قوله عز وجل «قتل أصحاب الأخدود» دليل على غضب الله على الفعلة وفاعليها، وشناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم ونقمته ووعيده بالقتل لفاعليه ثم يجيء تفسير «الأخدود النار ذات الوقود»، والأخدود: الشق في الأرض، وكان أصحابه شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملؤوه ناراً، فصارت النار بدلاً في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها.
«إذ هم عليها قعود* وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود» تعبير يصور موقفهم ومشهدهم، وهم يوقدون النار ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار، قريبون من عملية التعذيب البشعة، يشاهدون أطوار التعذيب في لذة وسعار.
وما أنكر أصحاب الأخدود على هؤلاء الذين أحرقوهم بالنار إلا أنهم آمنوا بربهم، الموصوف بالغلبة والقهر، والمحمود على نعمه وأفضاله، الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وهو رقيب على الجميع شاهد على أعمالهم وأحوالهم. وهؤلاء الذين عذبوا المؤمنين وحرقوهم في الدنيا، ولم يندموا على ما فعلوا، سيلقون عقابهم في جهنم، وفي حريق شديد. وهؤلاء المؤمنون الصادقون، يلقون جزاءهم في جنات تجري من تحتها الأنهار، مع رضوان الله، وذلك هو الفوز الكبير.وبهذا يتم الأمر، وينال كل طرف جزاءه العادل.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"