الحنين والشوق إلى السبيخة والبُطين في ديرة

02:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
بقلم: عبدالغفار حسين

[email protected]

بيني وبين منطقة السبيخة في ديرة رباط من الود شديد، فهي المكان الذي ولدت فيه، وأرضها أول أرض مسّ جلدي تُرابها.

والسبيخة مرتع طفولتي، وصباي، وشبابي، فلا يمر أسبوعان، أو ثلاثة بالكثير وأنا في البلد إلا ويدفعني الشوق إلى المرور على السبيخة، وتحين مني التفاتة إلى البيت الذي ولدت فيه، وعاشت فيه أسرتي نحو نصف قرن، وأصبح الآن فندقاً كبيراً، ومُجمعاً لدكاكين خردوات، وعندما تقع عيناي على بيتنا الذي كان يعلوه بارجيل ضخم، كان أكبر بارجيل في السبيخة، يسيحُ بي الخيال، وأناجي المكان بقول شاعر مصري، لا يحضرني اسمه:

مواطن أهلي ثمّ صَحْبي وجيرتي

وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها

وقضّيتُ صفوَ العيش في عرصاتها

لذلك يحلو للفؤاد رحابها

وبالرغم من كل مظاهر الحداثة من مبانٍ شاهقة، ومحال تجارية تنبض بالأنوار، والألوان، والمعروضات، ووجوه لبشر من خلق الله ليس بينهم وبين الماضين من الأهل والصحاب والخلان الأولين صلة، ومُعظمها وجوه غريبة عني في الملامح واللسان، لكنني عند اجتيازي ميدان السبخة أشعر بأنني أدخل في محيط تعانقني زواياه، وأرى أشباح أيد تلوّح لي محيّية زائراً تشعُر بأن البعيد بين حناياه إحساس قديم بالانتماء المكاني لهذه البقعة، ويفوح من هذا الزائر عبق الماضي البعيد، ولكنهم يشمون عبيره في هذه الزاوية، وتلك، مما ينبئ لهم أن هذا المكان كان دائم الصخب، يمور بالرائح والغادي من الحضر والبادي منذ قرنين من الزمن.

كانت السبيخة رئة ديرة يتنفس أهلها كل صباح من ساحتها الفسيحة هواء الصحراء، التي تأتي منها الجِمال والنوق المحملة بما تجود بها فرجان(1) الصحراء القريبة والمحيطة بدُبي، عود المُطينة والخوانيج والبديعات والعوير، من علف وحطب وفحم وماشية من الماعز. وإذا جَادَت السماء بالغيث على هذه البقاع في مواسم الشتاء والربيع نجد فوق البسطة التي يضعها البدوي في مكان مراحه في السبيخة، الأقط والفقع والحمّاض(2).

واسم السبيخة خَلَفٌ لخير سلف، وهو المكان الذي اكتشف في الستينات من القرن الماضي بالقرب من منطقة جميرا في دُبي، وكان محطة قوافل بين الديار العُمانية، والعراق، والشام، في العهد الأموي. ولأول مرة عرفنا بوجود آثار تاريخية في هذا المكان لمحطة قوافل. وجاء مدرس أمريكي من الجامعة الأمريكية في بيروت، واسمه الدكتور برامكي، ليؤكد المكان والاسم «السبخة».. وعرَّفنا يومئذ، نحن أهالي السبخة، بأن اسم مَحَلّنا هذا ذكره ابن خرداذبه(3) المؤلف لكتاب «المسالك والممالك». ولمَّا انتقلت مجموعة من أهالي بر دُبي إلى ديرة في عام 1841، وأقاموا لهم مساكن هنا، وامتدت مساكنهم من الراس إلى البُطين في ديرة، خصص الأهالي هذه الساحة في عهد الشيخ حشر بن مكتوم بن بطي، الذي حكم دُبي بين عامي 1836و1852، وسميت باسم السبخة في منطقة البُطين على اسم السبخة الأولى كمحطة للقوافل القادمة من البادية. وبينما أتحدث عن السبخة ومنطقة البُطين في ديرة، التي قضينا بين ربوعها سنين الطفولة وبدايات الشباب، يُذكّرنا المرحوم أحمد أمين المدني، الذي ولد ونشأ في نفس الحارة، بهذه الأبيات، ويُثير في نفوسنا الذكريات:

مروا على حي «البُطين» وجددوا

ذكرى شباب ضاع في الأوهامِ

ودعتُ بين بيوتها بيض المُنى

رقراقة الأطياف بالأحلامِ

بالله آمال الصبا وربيعه

هاتي عهود شبيبتي وغرامي

واستنشدي خفق النياسم إن سرت

ليلاً فهل فيها شذا أيامي

ما لي سوى الآهات بعد زمانها

تهتز في جَنبيَّ بالآلام

لم يبق منها غير ما يذكي الأسى

في أضلُعي والشوق في أنفاسي

(1) - فرجان: جمع «فريج» بالعامية،

ويعني الحي أو الحارة

(2) - الحمّاض: نبات عشبي،

يُؤكل كسلطة

(3) - ابن خرداذبه: مؤرخ وجغرافي عربي، اشتهر بكتابه الجغرافي كتاب «المسالك والممالك».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"