قلق الخطوات الأولى

02:38 صباحا
قراءة 7 دقائق
** القاهرة: مدحت صفوت

أن تكتب لأول مرة عملية مثيرة لكنها صعبة في الوقت نفسه، تتوفر الإثارة في بناء العالم وخلق الشخصيات وحبك المشاهد وإدارة الصراع ونسج مسارات المتعة، لكنّ الصعوبة تكمن في عدد من التحديات التي يواجهها الكتاب مع نشر أعمالهم الأولى.
مع الانتهاء من الكتاب الأول، وقبل الدفع به إلى المطابع ينتاب الكثيرين قلق بشأن الثقة في النفس وجودة العمل، وهو قلق يصيب حتّى الكتاب المتمرسين، المشار إليه في بعض الكتابات النقدية ب«قلق المبدعين»، الذي يتجلى في أسئلة تتعلق بمدى جدة الرؤية وخصوصية اللغة وغير ذلك، فضلًا عن صعوبات النشر ومساومات الناشرين وإشكالياتهم.
بعد فترة من نشر العمل الأول، يشعر الكثير من الكتّاب أن مؤلفهم الأول لا يعبر عنهم، وغالباً يشعرون بشيء من الخجل حال الحديث عنه، مما يدفع بهم إلى إسقاطه من ذاكرتهم الكتابية، فيما يبدو أن البعض لجأ إلى فكرة مغايرة، وهي إعادة كتابة العمل مرة أخرى، والتخلص من الآفات التي تصيب الكتابة في مطلع العمر، الأمر الذي نتلمسه مع القاص والروائي منير عتيبة في مجموعته القصصية الأولى «يا فراخ العالم اتحدوا» 1998، والقاصة والمسرحية نهى صبحي في مجموعة «أصفاد الروح» 2019.
الأمر لم يقتصر على الأدباء العرب، فالأديب الإيرلندي «كولوم ماكان» بعدما نشر روايته الأولى «songdogs» وهو في منتصف العشرينات 1995، استمع إلى وكيله الأدبي الذي رأى أنها رواية غير جيدة، يقرّ «ماكان» أخيراً أن الوكيل كان على حق، فأعاد كتابة الرواية ثلاث مرات، ومع ذلك يراها بعد ربع قرن من النشر رواية شاب معيبة «لن أقرأها مرة أخرى، لماذا أقضي وقتي مع عملي الخاص بينما يمكنني قراءة أعمال شخص آخر؟ لا تزال بعض ذكريات الرواية تزعجني».
بدوره، ينظر «ألكسندر تشي» إلى روايته الأولى «إدنبرة الآن» التي نشرت في 2001 بشيء من الفخر أكثر من افتخاره وقت صدورها، فقد ناضل من أجل نشرها، وتعرض للرفض 24 مرة من دور النشر، واستغرق الأمر عامين ونصف العام، وفي حديثه للمحررة البريطانية ميريديث توريتس يقول «أعتقد أنني استوعبت الرفض، وكان الاحتفال النهائي بالنشر، لكني تلقيت النبأ بشيء من البرود، حتى عندما سارت الأمور على نحو أفضل مما توقعت بعد النشر، ظل الناس يقولون لي ألستَ سعيداً؟ ولم أستطع الإجابة، كنت أفكر، حسناً لا أعرف، حيرني الشعور لفترة، كنتُ أستعد لكارثة بعد الرواية لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث، ويمكنني الفرح الآن».


نصائح دائمة


من جهته، يستخلص الكاتب الأمريكي «جو بانتينج»، من حوارات وكتابات الكاتب الكولومبي جابريل جارسيا ماركيز، 7 نصائح إلى الكتاب الشباب الذين يخطون خطوتهم الأولى ويقدمون أعمالهم الأولى للجمهور، وشملت الكتابة عما نعرف، ونسج الخيال من الطفولة، وخلق السحر، والقدرة على التخييل التي تؤدي إلى تصديق القارئ ومعايشته لما يقرأ، واستعمال اللغة التصويرية المجازية، والكتابة في القضايا السياسية.
بيد أن النصيحة الأخيرة كانت ملفتة على نحو أوضح، «أن تكون صحفياً»، ويستعين «جو بانتينج»، بمقولة ماركيز «غذت الصحافةُ خيالي؛ لأنها أبقتني على علاقة وثيقة بالواقع»، على الرغم من عنصر الخيال في عمل جارسيا ماركيز، فإن قصصه تجد أسسها في الحياة الواقعية، ويرجع جزء من هذا إلى تدريبه كصحفي، كما عمل عدّة كتاب كبار في القرنين التاسع عشر والعشرين في بلاط صاحبة الجلالة أولًا، بما في ذلك الروائيون الأمريكيون مارك توين وإرنست همنجواي وجون شتاينبك، ويختتم «جو بانتينج» حديثه بنصيحة المؤلفين في مطلع حياتهم «إذا كنت تريد أن تكون كاتباً رائعاً، ففكر في ممارسة الصحافة».
وعلى نقيض ما هو شائع من الانفتاح الاجتماعي للكتاب والمؤلفين، فإن كثيراً من المبدعين يرون أن الكتابة تتطلب أن يكون الفرد أكثر انطوائية من الشخص العادي، بالتالي يقضون الكثير من الوقت بمفردهم، الأمر الذي دفع الروائية الكندية «أليس مونرو» إلى التوقف عن الكتابة بعد أن حصدت نوبل مبررة قرارها ب«عندما تكون في سني ربما لا ترغب في أن تبقى وحيداً إلى الحد الذي يألفه الكُتّاب». في حين قد لا يكون الكتاب الشباب معتادين على البقاء بمفردهم ومع أفكارهم الخاصة، وربما يمثل الأشخاص الآخرون مصادر الإلهام.


اقرأ أولًا


وبما أن الكتابة هي سعي دائم، فإن أفضل الكتاب لا يتوقفون أبداً عن التعلم واكتساب ما ينمي حرفتهم، بوصف الكتابة حرفة، هنا يقدم موقع «MasterClass» المتخصص في تنمية المهارات التعليمية نصائحه للكتاب الجدد الذين يقبلون على نشر كتبهم الأولى.
ومن خلال الموقع، يؤكد المسرحي الأمريكي «ديفيد آلان ماميت» أن القاعدة الأولى لأن يكون المؤلف كاتبا محترفاً هي الكتابة على نحو منتظم، فالتأليف مهمة شاقة، ومن الصعب تحسينها إن لم تمارس على نحو يومي، فبمجرد اعتياد الكتابة تنمو الثقة في المهارات الذاتية، يردد «ماميت» «لا تدع مشاعر النقص أو الإحباط تمنعك من الجلوس على مكتبك والقيام بالعمل بشكل يومي».
الكتابة تتطلب بالطبع التوسع في المعرفة والقراءة المنتظمة، فالمبدع الجيد مثقف جيد، ويقول «ماميت»: «احتفظ بكتبك المفضلة في متناول اليد للرجوع إليها. ضع إشارة مرجعية على المقاطع المفضلة لديك وحددها وابحث عن كتب جديدة لتوسيع قاعدة معارفك». ويسخر ستيفن كينج من الكتاب الذين يقلون في قراءتهم «أشعر دائماً بالذهول من الكتاب الجدد الذين يطلبون مني النصيحة، ويعترفون، بكل سرور، بأنهم ليس لديهم وقت للقراءة. هم مثل رجل أراد أن يصعد جبل إيفرست ولم يكن لديه وقت لشراء أي حبل».


التعلم من الخطأ


الكاتب الأمريكي الحاصل على نوبل «وليم فوكنر» يشطب كل ما سبق، إذ لا توجد طريقة ميكانيكية لإنجاز الكتابة، ومن الحماقة أن تتبع نظرية ما. يردد «علم نفسك بأخطائك؛ يتعلم الناس فقط عن طريق الخطأ. والفنان الجيد يعتقد أنه لا يوجد أفضل منه بما يكفي لتقديم المشورة له، لديه غرور سامٍ، بغض النظر عن مدى إعجابه بالكاتب القديم، فإنه يريد أن يضربه».
وفي الإطار ذاته، كتبت الروائية السورية عبير إسبر، المقيمة في كندا، مؤخراً، أنها دائماً ما تشعر بالانتماء إلى الأجيال الجديدة «أحب تبجحهم ونقمتهم، وانعدام خضوعهم وتأتأتهم الأدبية أمام «الكبار»، أحب المبتدئين العظام، المبتدئين الدائمين، أحب فجاجة تجربتهم وتجريبيتها، أحب تطرفهم، ونظرتهم الإطاحية الانقلابية، أعشق حدتهم وسكاكين آرائهم الجارحة»، وتختتم قولها «إنها فظاظة الأعمال الأولى ومخيلتها ما أفتقد، رحيقها ولا مدرسيتها».


محبة المقص


أما بالنسبة لعلاقة الأديب الشاب بعمله الأول، فغالباً ما تكون علاقة حب مفرط لكل ما ينتجه المؤلف، هنا تنصح الكاتبة الكندية الشهيرة مارجريت آتوود بأنه يتوجب على الكاتب أن يكون «محرراً دقيقاً شغوفاً بالتعديل»، قبل أن تستدرك في نصيحتها بعدم ضغط الذات لكتابة جمل شديدة الكثافة في كل سطر، «إذا انتظرت الكمال فقد لا تكتب كلمة واحدة أبداً».
الروائية الأمريكية وأستاذة الأدب الزائرة في كلية بارد فرانسين بروز، توضح معاناة الأدباء في أعمالهم الأولى في غياب المراجعة «من بين الأسئلة التي يحتاج الكتاب إلى أن يطرحوها على أنفسهم في عملية المراجعة - هل هذه هي أفضل كلمة يمكنني أن أجدها؟ هل المعنى واضح؟ هل يمكن اقتطاع كلمة أو عبارة دون التضحية بأي شيء أساسي؟ ولعل السؤال الأهم هو: هل هذه هي لغتي؟».
الأمريكي ترومان كابوتي يشدد هنا على ضرورة الحذف من العمل الأول، «أؤيد المقص. وأؤمن به أكثر مما أؤمن بالقلم الرصاص»، فيما تبدو رؤية الشاعر والمسرحي الإنجليزي صموئيل جونسون، الشهير بالدكتور جونسون، أكثر قسوة حيال النص بقوله «اقرأ مؤلفاتك، وعندما تقابل مقطعاً تعتقد أنه غير جيد اشطبه».


القط والفأر

الأدباء الشباب العرب يشهدون معاناة واضحة مع بعض دور النشر تتعلق بالحقوق المادية، ففي السنوات الأخيرة، بدا بعض الكتاب مضطرين للتنازل عن حقوقهم مقابل النشر، وعلى الرغم من تعدد القوانين والوثائق المنظمة لعلاقة الكُتّاب المؤلفين بالناشرين وأرباب دور النشر، فإن العلاقة لا تزال تدور في إطار لعبة «القط والفأر»، ويُلقي كلّ طرف بالتهم على الطرف الآخر.
وتنصّ القوانين العربية المنظمة لعملية النشر على أنه للمؤلف وحده الحق في تقرير مصنفه وفي تعيين طريقة هذا النشر، وله وحده الحق في استغلال مصنفه مالياً، ولا يجوز لغيره مباشرة هذا الحق إلا بعد الحصول على إذن كتابي من صاحب حق الاستغلال المالي للمصنف الأصلي أو خلفائه، ويتضمن الإذن طريقة ونوع ومدة الاستغلال، كما يضمن له نقل المصنف إلى الجمهور مباشرة بأيّ صورة خاصة، وفي الوقت الذي يلتزم فيه الناشرون بطرائق النشر التي يجري الاتفاق عليها مع المؤلفين، تتعدد الشكاوى من عدم الحصول على الحق المالي.


رفض المشاهير


يقابل بعض الكتاب رفضاً من دور النشر بعد تقييم مسودات كتبهم، وهي ضربة تلقاها عشرات الكتاب العرب والغربيين، قبل أن تصبح أسماؤهم في غاية الشهرة، فإرنست هيمنجواي رُفضت روايته «ولا تزال الشمس تشرق»، ووصفتها دار النشر بالمملة. كما رفضت دار «Son Publishing» رواية «موبي ديك» لهيرمان ملفيل التي ترجمها إلى العربية إحسان عباس، وتدور حول صراع تراجيدي بين حوت وإنسان.
وربما لا يصدق الكثيرون أن جورج أورويل واجه رفض «مزرعة الحيوانات» 4 مرات على الأقل قبل طبعها في أغسطس 1945، ورأى «ت.س إليوت» في حيثيات الرفض «ليس لدينا قناعة أن هذه هي وجهة النظر الصحيحة التي يمكن من خلالها انتقاد الوضع السياسي في الوقت الحاضر»، كما كتبت له إحدى الدور الأمريكية «من المستحيل بيع قصص الحيوانات في الولايات المتحدة». أضف إلى الأسماء السابقة ما تعرضت له بعض أعمال مارسيل بروست وستيفن كينج وسيلفيا بلاث التي رفض مخطوطها مرتين الأولى باسم مستعار والثانية باسمها الحقيقي.
تاريخ الكتابة يؤكد على عدم الاستسلام، فالكتابة في ذاتها مقاومة، والأخيرة تعني التمسك بالأفضل مما هو آت، فمن المرجح أن تصل إلى نقطة لا يكون فيها عملك الشاق جيداً بما فيه الكفاية، لكن لا تفزع، فالرفض يحدث حتى للأفضل. فرائعة جيمس جويس «عوليس» رفضت من أكثر من ناشر بزعم أنها تحوي فحشاً. وتلقى الشاعر والقاص البريطاني روديارد كبلينغ رداً يؤكد أنه لا يعرف كيف يستخدم اللغة الإنجليزية، قبل أن يصبح واحداً من أهمّ كتّاب بريطانيا في القرن التاسع عشر ويحصل على عضوية الجمعية الملكية للأدب.
علاقة الكتابة بالرفض ممتدة وتاريخها مليء بالحوادث الغريبة، الأمر الذي دفع الفيلسوف الفرنسي أندريه برنارد إلى تأليف كتابه الشهير «الرفض الأجوف» عن رسائل الناشرين إلى الكتاب، فكاتب قصص الجاسوسية الأمريكي جون لو كاريه وصفه ناشر ما ب«ليس لديك أي مستقبل»، أما توني جروف المعروف بتوني هيلرمان علقت إحدى دور النشر على روايته «طريق النعمة» «إذا أصررت على إعادة كتابة هذا، تخلص من كل تلك العناصر الهندية».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"