بغداد.. منارة بين دجلة والفرات (2)

أقيمت وسط مراكز حضارات قديمة
03:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

مع انتقال الخليفة المنصور إلى بغداد، مع أهله، وحاشيته، وحرسه، وجنده، تقاطر عليها الناس من سائر الأمصار، فازداد عدد سكانها، وتنوعت أصولهم. وأقيمت بغداد وسط مراكز حضارات قديمة عرفت الرقي والمدنية كالبابلية، والآشورية، والساسانية، وساعدها قربها من مراكز الحركة الفكرية آنذاك على خلق بيئة جديدة متنوعة المعارف، متزاوجة الثقافات، منفتحة الذهن، كما ساعد الازدهار الاقتصادي في ازدهار حضاري علمي لم يتوفر لغيرها من المدن في ذلك العصر.

ويقول ابن الفقيه الهمداني في كتابه «البلدان»: في أواخر القرن الثالث الهجري كانت بغداد تشبه حلقة يحيط بها سور المستعين من كل أطرافها، ثم أخذ العمران ينتشر في الجانب الشرقي منها، فامتد جنوب السور على ضفة دجلة، إلى مسافة بعيدة حيث أُقيمت قصور الخلفاء، والبساتين الملحقة بها، وكان أهمها قصر التاج الذي أسسه المعتضد، وأتمّ بناءه المكتفي، ودار الشجرة، والدار المثمنة، والدار المربّعة، ودار الوزارة، والدواوين، وغيرها، وصارت هذه القصور وملحقاتها تُعرف باسم دار الخلافة، واتخذها خلفاء بني العباس مقراً لحكمهم.

واتصلت العمارات حول دار الخلافة، وأصبح سوق الثلاثاء أهم سوق في الجانب الشرقي، فأنشئت على جانبيه المحال والدروب، وأضحت محلات بغداد الشرقية ثلاثاً: الرصافة، والشماسية، والمخرم.

رعاية الآداب والعلوم

نشطت أسواق بغداد، وتنوعت مهنها، واهتم الخلفاء العباسيون، إلى جانب العمران الباذخ، برعاية الآداب والعلوم والفنون، وتقاطر عليها الشعراء، والعلماء، وطلاب المعرفة، وكثر الاجتهاد في أروقة معاهدها، ومساجدها. وقدِم إليها نخبة العلماء والمفكرين، بينهم جابر بن حيان، وفيها أقام معمل تجاربه، ودرّس علومه، وعاصر المهدي والهادي، وقرّبه الرشيد، ولجيوشها استخلص حجر الكي، «نترات الفضة»، لكيّ الجروح، وهو مكتشف ماء الذهب، والفضة، وعنصر البوتاس، وملح النشادر، ومركّب كبريتيد الزئبق، وحامض الكبريتيك، وفي بغداد صاغ نظريته عن الاتحاد الكيميائي (عن أصول المعادن) التي سبق بها نظرية «دالتون» بألف عام. وفي مدرسة الحكمة تلقّى الخوارزمي علوم الرياضيات، وقدّره الرشيد، وعهد إليه المأمون بأمانة مكتبة القصر، وفيها وضع أشهر مؤلفاته عن «الأسطرلاب»، و«المزولة»، و«علم الجبر»، وفيها اكتشف الصفر عن الرياضيات الهندية. وفي بغداد أخذ الفارابي المنطق عن «أبي بشر متى بن يونس»، وعن «أبي بكر السرّاج» قواعد الصرف، والنحو، وإلى العاصمة الزاهرة وفد عالم البصريات ابن الهيثم، وفيها ألف الواقدي كتابه «المغازي»، وألّف ابن جرير الطبري تفسيره الشهير، وقد ذكر

العلامة «ابن خلدون» في مقدمته في بحث الأدب: «إن أصول هذا الفن وأركانه أربعةُ كتب ألّفها البغداديون، وهي: «أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«الكامل» للمبرّد، و«البيان والتبيين» للجاحظ، و«النوادر» لأبي علي القالي، أما شعراؤها فمنهم: الشريف الرضي، وأبوتمام الطائي، والبحتري، وابن الرومي، وبشار بن برد، وأبونؤاس، وغيرهم.

ومن «بغداد» انطلق المسعودي إلى رحلاته الجغرافية التي شملت الهند، وبحر قزوين، والبحر الأحمر، والمحيط الأطلسي، ووصل إليها من «نيسابور» الإمام «أبوحامد الغزالي» في عهد الخليفة «المقتدي بالله»،

فعمل في «المدرسة النظامية» لمدة أربع سنوات، وألّف فيها بعض كتبه، ثم خرج ليطوف في عدد من عواصم العالم الإسلامي.

خزائن الكتب

أنشأ الخليفة هارون الرشيد بيت الحكمة، في مبنى كبير ضم قاعات واسعة، اشتملت على خزائن الكتب، وفي كل منها مجموعات من الأسفار العلمية الخاصة بعلم من العلوم، وعيّن الرشيد فيها المترجمين، والورّاقين، والمجلّدين، عُرف من بينهم «الفضل بن سهل بن نوبخت» الذي أشرف على النقل من الفارسية، و«يوحنا بن ماسويه» الذي تولّى ترجمة مؤلفات الطب القديمة التي جُلبت من أنقرة، وعمورية، والقسطنطينية، وحيثما توافرت في الغرب.

كذلك شيّدت في عهد المستنصر بالله، ببغداد، أول جامعة إسلامية على ضفة دجلة في الجانب الشرقي من المدينة، وتكونت المستنصرية من أقسام عدة لتدريس العلوم المختلفة إلى جانب الفقه على المذاهب الأربعة، وهيأ لها الخليفة كل مستلزماتها من المدرسين والإداريين والمشرفين المختصين، واحتوت مكتبتها على ثمانين ألف مجلد، وضمّت مخزناً للأدوية، وإيواناً للطب، وعلى مدخلها أُقيمت الساعة العجيبة لتُرشد الناس إلى أوقات الصلاة، وكانت شاهداً على مدى التقدّم العلمي الذي بلغته المدينة في ذلك العهد.

أما الخليفة المأمون، فنافس أباه في تقدير العلوم، وكان مؤمناً بدور العقل في صنع التقدم والحضارة، فعقدت المناظرات العلمية في قصره بين العلماء، كما أقام في بغداد مرصداً فلكياً. ونشط التأليف العلمي في الفلك، وتم صنع الساعات الدقاقة، والمائية، وبلغ الاهتمام بالرياضيات وعلم الجبر والهندسة الأوج، وصححت أخطاء النظريات القديمة، وألّفت النظريات الجديدة التي سبقت بحوث ديكارت، وبيكون، بمئات السنين.

وامتدّ الازدهار الحضاري في بغداد إلى ميادين الزراعة والتجارة والعمران، وكانت بغداد بحق جوهرة العالم الإسلامي، ومنارة الرُّقي والتقدم، وظلت ترفع شعلة الحضارة الإنسانية طوال قرون، ثمّ بدأت شمسها تميل إلى الغروب بسبب الأوبئة الفتّاكة التي اجتاحتها، والفتن والثورات التي تكرّرت في العهود المتأخرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"