القرطبي.. صاحب «الجامع لأحكام القرآن»

قامات إسلامية
03:06 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، ولد في قرطبة أوائل القرن السابع الهجري (ما بين 600 - 610 ه)، وعاش بها، ثم انتقل إلى مصر، حيث استقر بمنية بني خصيب في شمال أسيوط، ويقال لها اليوم «المنيا»، وبقي فيها حتى وافته المنية في 9 شوال 671 هجرية.
أقبل الإمام منذ صغره على العلوم الدينية والعربية، فتعلم العربية والشعر والبلاغة إلى جانب علوم القرآن الكريم، وتلقى ثقافة واسعة في الفقه والنحو والقراءات وغيرها على جماعة من العلماء المشهورين في قرطبة وكان يعيش آنذاك في كنف أبيه ورعايته، وبقي كذلك حتى وفاة والده سنة 627ه.
كان من أسرة متوسطة الحال، وكانت حياته متواضعة، فكان إلى جانب تلقيه العلم ينقل الآجر لصنع الخزف في فترة شبابه، وقد كانت صناعة الخزف والفخار من الصناعات التقليدية التي انتشرت في قرطبة آنذاك.


إلى مصر


عاش الإمام القرطبي مأساة الأندلس، حيث بقي بقرطبة حتى سقوطها، وخرج منها نحو عام 633ه، فرحل إلى المشرق طلباً للعلم من مصادره، وكانت مصر آنذاك في عهد الأيوبيين والمماليك، وهو العهد الذي وفد فيه القرطبي إلى مصر وقد كانت محطاً لكثير من علماء المسلمين على اختلاف أقطارهم، وأجناسهم؛ إذ وجدوا فيها أمناً فقدوه في ديارهم، ومن هنا ندرك المكانة التي كانت تتمتع بها مصر لدى العلماء الذين وفدوا إليها من كل الأقطار، وهو ما جعل الإمام القرطبي يقصدها مباشرة بعد سقوط قرطبة؛ وذلك ليلتقي بهؤلاء العلماء ويأخذ عنهم، ويؤيد هذا ما نقلته المصادر من تنقلات القرطبي في بلاد مصر، من منطقة لأخرى، باحثاً عن العلماء، ومن ذلك تنقله إلى الإسكندرية، والقاهرة، والفيوم.
أثنى العلماء على الإمام القرطبي؛ لما كان يتحلى به من صفات حميدة وخلال حسنة، ولما يتمتع به من ورع وتقى، وزهد في الدنيا وزخرفها.
والذي يطالع مؤلفات القرطبي سيرى فيها صدى هذا الورع والزهد في كل صفحة من صفحاتها، فهو يشكو دائماً من كثرة الفساد، وانتشار الحرام، والابتعاد عن الواجبات، والوقوع في المحرمات، ومن مظاهر ورعه وزهده: تصنيفه كتاب (قمع الحرص بالزهد والقناعة)، وكتاب (التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة). وكان دائماً ما يذم الغنى الذي يجعل صاحبه مزهواً به، بعيداً عن تعهد الفقراء، ضعيفاً في التوكل على رب الأرض والسماء.


مؤلفات نادرة


ترك لنا القرطبي عدداً من المصنفات التي تدل على كثرة اطّلاعه وموفور علمه، وهي مؤلفات منقطعة النظير في بابها، سجلها لنا التاريخ وأنقذ البعض منها فطبع وتداوله الناس، والبعض الآخر ربما جرفته أمواج وعواصف تقلبات الدنيا، ولعل أهم المؤلفات للإمام القرطبي مما هو بين أيدينا كتاب «التذكار، في أفضل الأذكار» وهو كتاب قال عنه ابن فرحون: «وضعه على طريقة التبيان للنووي، لكن هذا أتم منه وأكثر علماً»، وكتاب «التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة» الذي قال عنه محمد مخلوف: «كتاب ليس له مثيل في بابه» وقد عمل بعض العلماء على اختصار هذا الكتاب كالإمام الشعراني في كتابه: «مختصر تذكرة الإمام القرطبي»، ومؤلفه المسمى «الكتاب الأسنى، في أسماء الله الحسنى»، بالإضافة إلى عشرات الكتب والرسائل الأخرى.
يعد الإمام القرطبي من أشهر أئمة تفسير القرآن الكريم، فهو صاحب (الجامع لأحكام القرآن) الذي يصنف كواحد من أعظم التفاسير، حتى إنه اشتهر باسمه فيما بعد، فأصبح يعرف باسم «تفسير القرطبي» الذي يعد واحداً من أمهات التفاسير وقد سبقه الطبري في تفسيره «جامع البيان في تفسير القرآن» (310 هجرية)، والزمخشري في «الكشاف» عن حقائق التنزيل (538 هجرية)، والرازي في «تفسير مفاتيح الغيب التفسير الكبير» (606 هجرية) ثم يأتي تفسيره المسمى ب«الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان»، وتلاه من بعده ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (771 هجرية) وآخرون كثيرون.


أمانة علمية


ولعل أهم فضائل القرطبي كمؤلف أنه كان دائم الحرص على أن يلتزم الأصول العلمية، ويتبع أساليب العلماء الفضلاء الذين لا يعنيهم إلا أن يثبتوا الفضل لأهله، ويتورعوا عن أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم. وهذه هي الأمانة العلمية التي يعمل علماء العالم الآن على تأصيلها، وتثبيت قيمها، واتخاذ أساليب لتنفيذها؛ ولا يتصور أنها تخرج عما ارتضاه الإمام القرطبي لنفسه حين كتب (تفسيره) حيث قال: «وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف إلى قائله».
يعتبر تفسير القرطبي موسوعة في تفسير القرآن الكريم، وهو من أفضل كتب التفسير التي عنيت بالأحكام، مع الاهتمام ببيان أسباب النزول، وذكر القراءات، واللغات ووجوه الإعراب، وتخريج الأحاديث، وبيان غريب الألفاظ، وتحديد أقوال الفقهاء، وجمع أقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف، وقدم المصنف فيه من الاستشهاد بأشعار العرب، وقد نقل عمن سبقه في التفسير، مع تعقيبه على من ينقل عنه، مثل: ابن جرير، وابن عطية، وابن العربي، وإلكيا الهراسي، وأبي بكر الجصاص، وقد تجنب ذكر الكثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، والإسرائيليات، وذكر جانباً منها أحياناً، كما رد على الفلاسفة والمعتزلة وغلاة المتصوفة وبقية الفرق، وذكر مذاهب الأئمة وناقشها، ويمتاز هذا التفسير عما سبق من تفاسير أحكام القرآن أنه لم يقتصر على آيات الأحكام فقط، والجانب الفقهي منها، بل ضم إليها كل ما يتعلق بالتفسير.


الانحياز للصواب


يعتبر تفسير القرطبي أكثر التفاسير سرداً للمسائل الفقهية وأجمعها، وقد أطال الإمام جداً في بعض المواضيع، مثل كلامه عن الإمامة الكبرى وهي الخلافة، وذلك في سورة البقرة الآية (30) «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون».
ومع أن القرطبي كان مالكي المذهب إلا أنه لم يكن متعصباً لمذهبه المالكي، بل كان يمشي مع الدليل حتى يصل إلى ما يراه صواباً أيا كان قائله، فمثلاً عند تفسير قول القرآن: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) يقول في المسألة الثانية عشرة من مسائل هذه الآية بعد أن ذكر خلاف العلماء في حكم من أكل في نهار رمضان ناسياً، وما نقل عن مالك من أنه يفطر وعليه القضاء، يقول: «وعند غير مالك ليس بمفطر كل من أكل ناسياً لصومه، قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور».
قضى الإمام القرطبي عمره بين تعلم وعبادة وتصنيف، وجاءته سكرة الموت وهو بمنية بني خصيب من الصعيد الأدنى بمصر، وذلك يوم الاثنين من شهر شوال من سنة إحدى وسبعين وستمئة (671 ه)، ودفن هناك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"