«روسيـا قيصريـة» بوجـه ديمقراطـي

04:11 صباحا
قراءة 4 دقائق
إعداد: بنيمين زرزور

مضى ما يقرب من ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفييتي. في ذلك الوقت، راودت الكثيرين في الغرب و في روسيا، الآمال في أن تنشأ هناك ديمقراطية ليبرالية على الطراز الأوروبي. إلا أن تلك الآمال لا تزال أضغاث أحلام. فالذين يحكمون روسيا حتى الآن، هم نخبة من ضباط الأمن في الاتحاد السوفييتي السابق بقيادة فلاديمير بوتين الذي تمكن من إنقاذ روسيا من الانهيار بعد حكم بوريس يلتسين.
مهد الاستفتاء الدستوري الأخير الطريق أمام بوتين ليظل رئيساً محتملاً حتى عام 2036، حيث يصبح عمره بحلول ذلك الوقت 83 عاماً، ويكون الزعيم الروسي الثاني من حيث طول فترة حكمه بعد القيصر بيتر الأكبر الذي حكم روسيا بين عامي 1682 و1725. ويبدو أن روسيا ذاهبة نحو نموذجها العتيق من حكم الفرد الذي عاشته قبل قرون.
ويبدو أيضاً أن الكرملين قرر معالجة «مسألة الخلافة»، حيث إن الحدود الزمنية التي تمنع بوتين من الترشح للرئاسة مرة أخرى في عام 2024 تحمل في طياتها خطر تحوله إلى «بطة عرجاء». وقد ساد الاضطراب النخبة السياسية الحاكمة، وهو ما ألمح إليه كبير الاستشاريين الإعلاميين في الكرملين، جليب بافلوفسكي، الذي قال: إنه على الرغم من سمعة بوتين كاستراتيجي بارع، إلا أنه وفريقه باتوا أشبه بفرقة جاز سياسية تكثر قراراتهم الارتجالية. وهذا الشعور يزداد قوة حتى في أوساط المقربين من الكرملين.


رياح معاكسة


وقد ألمح بوتين في البداية إلى تغييرات دستورية لتقليص صلاحيات منصب الرئاسة، وتعزيز صلاحيات المؤسسات الحكومية، وهو ما أثار تكهنات بأنه يعتزم البقاء في السلطة بعد عام 2024 تحت غطاء مختلف، باعتباره «أباً للأمة». ثم بدا الكرملين وكأنه يعيد ترتيب الأمور بطرق ملتوية. ثم انتهى الأمر إلى أن قبل بوتين اقتراحاً صممه عضو في البرلمان الروسي بإلغاء سقف فترتي الرئاسة، وهو ما فتح الطريق أمامه ليظل في منصبه حتى عام 2036.
وعملت فرقة الكرملين كل ما بوسعها للحفاظ على عزف نفس الموسيقى، مستغلة المستجدات الداخلية والخارجية ومنها تفشي كورونا وحرب أسعار النفط، حيث تراجعت عوائد الروس من الخام التي تشكل شريان الحياة في الاقتصادي الروسي.
وحصلت حزمة الإصلاح الدستوري على دعم بنسبة 78 في المئة في الاستفتاء الذي انتهى في اليوم الأول من يوليو / تموز، لأن التغيير في عدد سنوات فترة الرئاسة تم تغليفه بأكثر من 200 تعديل آخر، مثل تصنيف فئات المعاشات التقاعدية التي كان التصويت ضدها مستحيلاً. وعلى عكس استطلاعات الرأي السابقة، لعبت شخصية بوتين التي فقدت بريقها دوراً صغيراً نسبياً في رفع نسبة المصوتين بقبول الحزمة. يضاف إلى ذلك أن قيود التباعد الاجتماعي التي فرضها تفشي الوباء جعلت مراقبة عملية الاقتراع التي استمرت أسبوعاً أمراً صعباً.


جعبة فارغة


وبعد ما يزيد على عشرين عاماً، لم يعد لدى بوتين الكثير مما يمني به الروس. فبعد الارتفاع السريع لأسعار النفط في السنوات الأولى لحكمه، لم يتغير الناتج الاقتصادي بالدولار إلا قليلاً هذا العام مقارنة بعام 2008. صحيح أن بوتين عزز استقرار روسيا بعد أعوام التسعينات الصعبة، لكنه لم ينجح في تسخير الموارد الطبيعية والبشرية للبلاد لتحقيق مكانة رائدة لروسيا في مجال التصنيع أو الابتكار مثلاً.
وجاء في تحليل نشرته صحيفة «فاينانشال تايمز» بمناسبة الاستفتاء أن التجديد الدستوري قد يوجد حيز مناورة جيداً للدائرة الحاكمة لضخ الأموال في القطاعات الحيوية من الاقتصاد، بحيث تسفر عن رفع مستويات المعيشة، على الرغم من أن الفيروس قد استنفد خزائن الدولة، كما يوفر فرصة للتركيز على بديل لبوتين أصغر سناً في نقلة نوعية لتغيير فلسفة الحكم وديناميكياته.
وقد يكون ذلك متاحاً حتى عام 2024 على الرغم من أنه عندها لن تكون المعزوفات التي أطربت أذن الروس في ما مضى صالحة لاستمرار حفلة الرقص إلى ما لا نهاية، لأن الاختلافات بين أفراد الجوقة سوف تتحول إلى صدامات مباشرة.


توازنات السياسة الخارجية


وعلى صعيد علاقاتها الخارجية استطاعت روسيا إعادة طرح نفسها كقوة أوروبية ذات عمق آسيوي. وقد تمكن بوتين من توجيه بوصلة العلاقات الخارجية في منطقة وسط، بين جناح يؤيد المواجهة مع الغرب، والحفاظ على استقلالية السياسة الخارجية، وآخر يدعو إلى التعاون معه بسبب الحاجة إلى المعونات الاقتصادية والمالية.
وسلكت روسيا في عهد بوتين سبيلاً وسطاً باتخاذ موقف متوازن. إلا أن المشكلة التي سوف يواجهها بوتين في علاقاته مع الغرب، لا تقتصر فقط على عدم تجاوب هذا الأخير مع محاولاته التقارب والتنسيق في القضايا السياسية والاستراتيجية الدولية، ولكن في اتباع الغرب، وبخاصة أمريكا، مواقف اعتبرتها روسيا تهديداً مباشراً لمصالحها وأمنها، مثل توسيع الناتو شرقاً، وتبني أمريكا برنامج الدرع الصاروخي، والوقوف ضد انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، وتوثيق العلاقات الاستراتيجية مع بعض دول القوقاز التي تعتبرها روسيا عمقاً استراتيجياً لها.
ومثل هذه السياسات العدائية هي التي تدفع روسيا للتركيز على إقامة شراكة استراتيجية وتحالفات مع دول مثل الصين والهند، لمواجهة أمريكا كقطب وحيد على الساحة الدولية‏. لكن بوتين لن يقطع شعرة معاوية مع واشنطن، وسيظل حريصاً على تخفيف اللهجة تجاه العديد من القضايا، والتخلي عن المعارضة المستمرة للسياسة الأمريكية. وقد كان بوتين وراء الانفتاح في العلاقات بين البلدين، وخاصة بعد لقائه مع جورج بوش في يونيو / حزيران 2001. وسمحت هذه البراجماتية الجديدة بفتح آفاق جديدة في تطوير الشراكة مع دول أوروبا بحيث تتجاوز العلاقات الاقتصادية. ومع ذلك من المرجح أن تستمر بؤر التوتر في آسيا الوسطى وسوريا والعراق وإيران وكوريا والشرق الأوسط وشرق أوروبا، في عرقلة التوافق الكلي مع الغرب‏، على الرغم من حاجة أوروبا لمصادر الطاقة الروسية من النفط والغاز وحاجة الروس إلى الاستثمارات الغربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"