لعبة فصل الدين عن الدولة

02:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.يوسف الحسن

أقر الدستور الأمريكي، في تعديله الأول عام 1789، مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، بعد أن سادت الكنيسة البروتستانتية التي انتقلت مع المهاجرين الأوروبيين الأوائل، وبخاصة من البريطانيين والألمان، إلى أمريكا في القرن السابع عشر، وسيطرت على كل السلطة في معظم المناطق التي استقروا فيها حتى أواخر القرن الثامن عشر، لكن من بدء هجرات من الكاثوليك إلى أمريكا، برزت مخاوف بروتستانتية من مشاركة الكنيسة الكاثوليكية لما حققته الكنائس البروتستانتية من امتيازات وسلطات في مواجهة الدولة، مما دعاها إلى المطالبة بتطبيق المبدأ النظري المسيحي بفصل الدين عن الدولة، بحيث تقف الدولة على الحياد في العلاقات ما بين الإنسان والدين، ويحظر على «الكونجرس» سنّ قوانين تؤسس ديناً أو تمنع حرية التعبير الديني، أو تجبر أحداً على اتباع دين معين بأية وسيلة، أو أن تساعد الدولة في ذلك مادياً أو معنوياً، أو حتى أن تسمح لتلاميذ المدارس الحكومية بقراءة نص شبه ديني بصوت عال في بداية كل يوم دراسي يقول: «أيها الرب القدير، بارك والدينا وأساتذتنا وبلدنا».
وفي ضوء هذا التعديل الدستوري، قرر القضاء الأمريكي تحريم تقديم قروض من الدولة لإصدار كتب دينية، كما قرر إعفاء الكنائس وما يرتبط بها من متاحف ومستشفيات ومكتبات ومنظمات من دفع الضرائب.
بمعنى أن الفصل بين الكنيسة والدولة كان مقصوداً به حماية الدين من الدولة والتحريم عليها أن تتدخل في شؤونه. وكان كلما قويت شوكة الدولة، ومعها ما يساندها من تيارات علمانية في المجتمع، أخذت بيدها زمام تطبيق المبدأ، لكن حينما تكون في الدولة قوى ومؤسسات مؤثرة ذات نزعة دينية وقبول عام بالدين، بخاصة في مؤسسة الرئاسة مثلما كان الأمر في إدارات الرؤساء رونالد ريجان وبوش الابن وترامب في العصر الحديث، فإن مكان الصدارة يميل إلى مصلحة الكنائس المؤثرة.
ورغم الاعتراف بمبدأ الفصل، فإنه لم يؤد إلى فصل الدين عن السياسة، وامتد أثر الدين ليمتزج بالتعليم والأعمال والفنون والسياسة والإعلام.
والموقف من «إسرائيل» هو نموذج واضح ومميز لاختلاط الدين بالسياسة، مع وجود نوع من الانفعالية الدينية التي تدخل في صلب البيانات والمواقف التي يتخذها سياسيون وتشريعيون، بحيث لم تعد كلمة «إسرائيل» مجرد اصطلاح سياسي، بل أضحت رمزاً خطابياً دينياً، وهو الخطاب الديني والمدني القائم على تراث المسيحية واليهودية.
* ومن هنا يمكن تفسير ما يردده الساسة الأمريكيون حول «الالتزام الأدبي - الأخلاقي» بدعم «إسرائيل»، والذي لا يستعمل لأية دولة صديقة أخرى لأمريكا سوى «إسرائيل» وهو تأكيد على هذا «الدين المدني» إذا جازت التسمية، هو في جذوره ديانة توراتية، وُضعت شروحها في قوالب توراتية، وبالتالي فإن استخدام الرموز الدينية الخطابية (أدبي - أخلاقي تراث مشترك - الأرض الموعودة.. الخ، عند الساسة وبعض العامة، يهدف إلى القفز على الحائط الفاصل بين الدين والدولة).
* وقد ملكت الكنائس في العقود الأربعة الماضية، أحدث أدوات الاتصال الجماهيري، من جامعات ومحطات مرئية وإلكترونية، وصار لها مؤسساتها ومنظماتها وجماعات ضغطها ولجانها السياسية، وصارت «نظاماً» شمولي الأغراض والنشاطات، وغدت حياتها الداخلية مجتمعاً سياسياً له القوة الاجتماعية والانتخابية الضرورية في صنع القرار السياسي.
* وتشير الإحصاءات الرسمية الأمريكية إلى تضاعف أعداد أعضاء الجسم الكنسي الأمريكي، وضخامة حجم التبرعات المقدمة للكنائس، والتي تقدر بالمليارات وقد اعتُبرت الحركة المسيحية الأصولية، أهم ظاهرة سياسية في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد ازدادت أهميتها وتأثيرها، في العقدين الأخيرين، وكان لها الدور الأساسي في نجاح الرئيس ترامب في الانتخابات الأخيرة.
* وتعتبر الطوائف البروتستانتية، والتي تشكل غالبية الحركة المسيحية الأصولية، أهم الكنائس تأثيراً على السياسة العامة، ليس بسبب كثرتها ودقة تنظيمها وتنوع أنشطتها، بل لكونها كنيسة الطبقة العليا أو ما يسمى (كنيسة البروتستانت الأنجلوساكسون البيض) والاتجاهات الصهيونية داخل الحركة الأصولية متأصلة لاهوتياً.
* ومن أسف، فإن هذا الوعي بمسألة الكنائس الأمريكية في العقل السياسي والفكري العربي، مازال قاصراً.
وأذكر أنني التقيت ساسة ودبلوماسيين معنيين بالعلاقات الأمريكية - العربية. في أكثر من مناسبة أو في مؤتمرات واجتماعات عربية ودولية، وقد لمّحت ونبّهت لخطورة التيارات الأصولية الإنجيلية المتطرفة في الساحة الأمريكية، وهو خطر داهم يزحف على الجميع، وينذر بتصرفات شديدة الغلظة ورغم أن الشواهد كانت ساطعة هناك، لكن الغريب أنهم لا يدركونها.
* أذكر لقاء لي بمعية المرحوم (كلوفيس مقصود) مع قادة فلسطينيين وعرب في أواسط التسعينات، في نيويورك شاركوا في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وقد تحدث (كلوفيس) عن ضرورة فتح جسور وعلاقات مع القوى الأمريكية من أصول إفريقية (السود). وتحدثت أمامهم عن ضرورة ملحة، لاستخدام الكنائس العربية الشرقية، من كاثوليك وأرثوذكس وإنجيليين، لتصحيح المفاهيم المغلوطة، وإزالة أساطير لاهوتية في أذهان قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي.
* لكن المفاجأة.. أن الجميع كان مخطوفاً ببريق «السلام» وبالمبادرات المغشوشة، وبوهج سلطة (السلطة) الوهمية، وبالسباق المحموم نحو «ساكن» البيت الأبيض، مما ألهاهم وشدَّهم إلى غير الهدف السليم.. وهو معرفة وفهم طبيعة القوى الفاعلة والمؤثرة في النظام والمجتمع الأمريكي، والتواصل معها، تفاعلاً وتحليلاً وتأثيراً.
* بعض من حضر المناقشات، شكك في وجود تأثير لهذه القوى «السوداء» وآخرون استرابوا في تعبير «الأصولية الإنجيلية الأمريكية» معتقدين أن أمريكا هي دولة علمانية لا مكان للدين فيها.
* عدت من هذه اللقاءات محبطاً وحزيناً، وكذلك الحال مع رفيقي (كلوفيس).. الذي ظل طوال عودتنا إلى واشنطن، يردد جملة (مش معقول.. شو هالمسخرة) وأذكر أنني لخصت حديثي قبل مغادرتنا قاعة الاجتماع، بالقول: أخشى أن يوصلنا جهلنا المعرفي إلى حائط مسدود، طالما لا نعرف ذهنية وطبيعة النظام السياسي الأمريكي، والقوى المؤثرة فيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"