فرنسا فوق صفيح أصفر

02:36 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

إيمانويل ماكرون تحدث أخيراً.. وبعد صمت طويل إلى الشعب الفرنسي «مساء الاثنين 10 ديسمبر»، مؤكداً تراجعه عن أغلب الإجراءات التي أثارت غضباً عارماً في الشارع الفرنسي من خلال «السترات الصفراء» التي حوّلت شوارع باريس إلى ساحة حرب، ومعلناً عن حزمة جديدة من الإجراءات الاقتصادية والضريبية والاجتماعية، وداعياً إلى حوار وطني شامل بين جميع مؤسسات الدولة والأحزاب والبلديات ومنظمات المجتمع المدني والنقابات، ومختلف فئات الشعب حول جميع القضايا المهمة، وإلى تخفيف مركزية «باريس»، وإعطاء دور أكبر للبلديات.. وكان ماكرون قد اجتمع قبل إلقاء خطابه - مطولاً - بممثلي النقابات والبلديات.
واعترف ماكرون بمسؤوليته «بنصيبي من المسؤولية»، عن الوضع المتفجر الذي واجهته فرنسا خلال الأسابيع الأخيرة، قائلاً إنه ربما كانت لديه أولويات أخرى، أو كرّس اهتمامه لقضايا أخرى أو أساء إلى أحد أو جرح شعور أحد.. مسترضياً الفرنسيين الغاضبين بقوله: «إنني استمد شرعيتي، لا من منصب أو حزب.. بل منكم أنتم».. كما أعلن احترامه لغضب الشعب الفرنسي، وإدراكه لأن هذا الغضب له جذور أعمق من مسألة الضرائب الأخيرة، مطالباً في الوقت نفسه باحترام القانون ووقف العنف وتخريب المنشآت العامة، ومعلناً أنه لن يكون هناك تسامح مع العنف والتخريب.
أما بخصوص المطالب الشعبية، فقد أعاد ماكرون التأكيد على إعلان إلغاء الضريبة على الوقود «ديزل السيارات» وخدمات الكهرباء والغاز، كما أعلن إجراءات جديدة من أهمها: زيادة الحد الأدنى للأجور بمقدار «100 يورو» شهرياً، وإعفاء الأجور عن ساعات العمل الإضافية من الضرائب «بداية من يناير 2019»، ودعوة أصحاب الأعمال إلى تقديم منح نهاية العام للعاملين.. وعلاوة سنوية «معفاة من الضرائب»، وكذلك إلغاء الضرائب على السكن، فضلاً عن تدابير عاجلة لمساعدة من يحصلون على دخل أقل من «2000» يورو شهرياً.
أما عن «إلغاء الضريبة على الثروة»، فقد أعلن ماكرون صعوبة اتخاذ مثل هذه الخطوة، خوفاً من تأثيرها المحتمل في الاستثمار، ومن ثم خلق فرص العمل.. لكنه وعد بالتوصل إلى طريقة مناسبة لتحميل الشركات الكبرى والأثرياء نصيبهم العادل من الالتزامات الاجتماعية.
ويقدّر الخبراء تكلفة الإعفاءات الضريبية والإجراءات الأخرى التي اتخذها ماكرون بما يتراوح بين (8) و(10) مليارات يورو سنوياً.. وهو مبلغ صغير إذا ما قورن بالعجز المتوقع في الموازنة العامة لسنة 2018 والمقدر أن يبلغ (2.6%).. من الناتج المحلي المقدر له أن يبلغ «2.93 تريليون دولار».. أي أن العجز المتوقع يبلغ «76.2 مليار دولار».. وهو مبلغ آمن حسب اتفاقية ماستريخت التي تعتبر العجز في الموازنة آمناً حتى «3%» من الناتج المحلي الإجمالي.. وهو ما يثير تساؤلاً منطقياً: هل كان هذا المبلغ (8 - 10 مليارات يورو أي 9.12 إلى 11.4 مليار دولار) يستحق كل هذا الانفجار الاجتماعي الضخم في دولة كبرى مثل فرنسا، يقترب ناتجها المحلي الإجمالي من (3 تريليونات دولار)؟، فضلاً عن الخسائر التي سببتها الأحداث، والخسائر التي لا تزال محتملة؟
وقد أشار بعض المحللين الفرنسيين إلى أن ماكرون بالخطاب الذي ألقاه، والتراجعات التي قدّمها، قد قام بدور الإطفائي، الذي صب الماء على الحريق المشتعل.
وتقديرنا أن هذا الحكم سابق لأوانه، فالتنازل الأساسي تم في الميدان السياسي والمعنوي، باعتذار ماكرون الفعلي للشعب الفرنسي، «وإن لم ينطق بكلمات الاعتذار نفسها»، وبإعلان التزامه بإدارة حوار وطني شامل مع كل القوى الحيّة في المجتمع، وبإبداء احترامه للبرلمان والمحليات والأحزاب والنقابات.. إلخ. وهو ما لم يكن يرى نفسه ملتزماً به في الفترة الماضية، باعتباره رئيساً للبلاد، في ظل «نظام رئاسي»، يعطيه سلطات كبيرة جداً، حتى إن المتظاهرين كانوا ينعتون ماكرون ب«الديكتاتور»، نظراً لأسلوبه المفرط في فرديته في الحكم، وعدم إيلائه الاعتبار الواجب لمؤسسات الدولة وللأحزاب والرأي العام.
أما من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فقد أعلن ممثلو «السترات الصفراء» أن الإجراءات، التي أعلن عنها ماكرون «غير كافية وغير مقنعة»، وأن خطابه كله «غير مقنع»، وأن حركتهم مستمرة.
لهذا نقول: إن الحديث عن دور «الإطفائي» لا يزال سابقاً لأوانه.. كما أن الحديث عن «التراجع الاستراتيجي» لماكرون، حسب بعض المحللين في أعقاب خطابه، ينطوي على قدر كبير من المبالغة، خاصة إذا ما قورن بمطالب المتظاهرين، بإعادة النظر في المنظومة الاقتصادية- الاجتماعية بمجملها، باعتبارها تجسيداً ل«الرأسمالية المتوحشة»، ومطالبتهم باستقالة الرئيس وحل البرلمان.
وقد رأينا كيف أن ماكرون نفسه يعترف بأن الغضب الشعبي، بسبب الضرائب، هو تعبير عن غضب شعبي أعمق، لم تكن الإجراءات الخاصة بالضرائب إلا مجرد سبب لتفجّره الواسع.
والواقع أن ما أطلق شرارة الحركة الجماهيرية الغاضبة «السترات الصفراء»، كانت قرارات اعتبرها أغلب الفرنسيين تعبيراً عن انحياز اجتماعي سافر من جانب ماكرون وحكومته للأغنياء ضد الفقراء، الأمر الذي دعا المتظاهرين إلى إطلاق وصف «رئيس الأثرياء» على ماكرون.. متهمين إياه بمحاولة حل مشكلات الاقتصاد، من خلال إلقاء مزيد من الأعباء على الفقراء «الطبقة الوسطى الصغيرة والعمال والموظفين وصغار المزارعين.. إلخ»، في إطار ما أصبح معروفاً على نطاق واسع بإجراءات «الرأسمالية المتوحشة».
وجاء انفجار الغضب العارم في الشارع الفرنسي، ليكشف عن وجود شرخ اجتماعي خطير بين هؤلاء الفقراء من جهة، والطبقات والفئات الاجتماعية الغنية من جهة أخرى، على مدى سنين طويلة، وهو الشرخ الذي ازداد اتساعه في العقود الأخيرة، بسبب زيادة نفوذ تيار اليمين الفكري والسياسي والاجتماعي، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي و«المعسكر الاشتراكي»، وما صاحبه من تقلص كبير لنفوذ الأحزاب اليسارية والنقابات في أوروبا وفي العالم عموماً.. ومن إضعاف لطابعها الاجتماعي، وصل إلى درجة «التدجين» في أغلب البلدان.. بينما كانت هذه الأحزاب والنقابات هي الحارسة لمكاسب «دولة الرفاه الاجتماعي»، في دول أوروبا الغربية خصوصاً.
صعود اليمين المتطرف، واهتراء النخبة اليسارية والنقابية واليمينية التقليدية في فرنسا، هي ما دفعت «السترات الصفراء» لتتصدر التعبير عن غضب الفئات الاجتماعية الفقيرة بدعم 70% من الجمهور، وكان وجود كثيرين من فقراء الضواحي والمهمشين غير المؤطرين حزبياً في صفوفها، هو الدافع للعنف في حركة تضم أناساً من شتى الاتجاهات الفكرية والسياسية. وبالرغم من أن الحركة غير منظمة وغير منسجمة فكرياً وسياسياً، وبالتالي معرّضة للانشقاقات والتفكك.. فمن المشكوك فيه أن ترضى بتنازلات ماكرون الضريبية المحدودة. ولأنها منتشرة على نطاق واسع في فرنسا، وبدأت تمتد إلى هولندا وبلجيكا، فمن الأرجح أن تستمد قوة من تحركات أقسامها المختلفة، وأن تسعى لانتزاع مكاسب أكبر..
وربما كان من مصلحة ماكرون والطبقة الحاكمة في فرنسا إطفاء حريق «السترات الصفراء» بسرعة، من خلال تقديم تنازلات جديّة، قبل أن يمتد الحريق لجهات أكثر في فرنسا وبلدان أخرى في أوروبا.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"