تحول الخوف إلى ثقافة

انتشاره كونياً تزامن مع تطور معرفي غير مسبوق
05:10 صباحا
قراءة 16 دقيقة

شكل التقدم المعرفي والعلمي في العقدين الأخيرين قفزة نوعية عالمية كبيرة على مستوى الوعي الإنساني، ويعتبر أن ما أنجز خلال هذه الفترة يوازي ما قدمته البشرية خلال تاريخها من معارف، وذلك بفضل ثورة الاتصالات الهائلة، والتي أتاحت إمكانيات فائقة السرعة في إنتاج حقول معرفية جديدة، وضخ سيل هائل من المعلومات، أصبح متاحاً للباحثين والعلماء والمفكرين كي يستفيدوا منه في نتاجاتهم، إلا أن الملاحظ اليوم أن تلك القفزة المعرفية أنتجت ردود أفعال قد تكون متناقضة ثقافياً مع الواقع الجديد، فعوضاً عن تحول المعرفة إلى مصدر من مصادر السعادة، راحت تشكل في كثير من الأحيان مصدراً للخوف والقلق والرعب، وهو ما شهده العالم على أثر الأزمات العاصفة بالعالم مؤخراً من أزمة مالية، وانفلونزا الخنازير،

حيث باتت المجتمعات تشعر بنوع من الخوف على مصيرها، وهذا الخوف بات ينتزع من الإنسان طمأنينته، وهو ما لم يكن موجوداً بالقوة ذاتها في عصور التاريخ المختلفة، حيث كان البشر أكثر بساطة في التعامل مع الأزمات أو الأوبئة.

ويأتي هذا التحقيق محاولة لرصد تحول المعرفة والوعي إلى مصدر شقاء للإنسان حيث قال الدكتور عبدالسلام ولد حرمة (موريتانيا): مثل غيرها من ثورات البشرية الحديثة، شكلت ثورة الاتصال الجامحة أهم مصادر صناعة القلق وهواجس الخوف اليومي والوجودي لدى الإنسان المعاصر، خصوصاً في المجتمع العربي الذي انفلتت فيه وسائل الإعلام السمعي البصري من عقالها في السنوات الأخيرة بشكل لافت.

فبعد أن كانت دوائر الخوف لدى السواد الأعظم تنحصر في الهموم اليومية والوطنية، غدا الخوف من أزمات العالم الحقيقية والوهمية مصدرين جديدين للخوف يطلان من التلفاز والشاشة الإلكترونية ليفترسا الإنسان في مجتمعنا ويحولان صباحاته وعشياته إلى مشاعر داخلية سريالية تنبض بوجيب الخوف والوجع، فكلما تعززت صلتنا اليوم بالعالم زاد احتمال أخذنا لجرعة من الخوف والفزع أكبر، وضعف احتمال توازننا نحو التعامل الإيجابي مع معضلاته، أو على الأقل ما يعنينا منها نحن العرب والمسلمين بشكل مباشر، وهو كثير اليوم.

ويتابع ولد حرمة: إن خطر تحول المعرفة المعززة بوسائل الاتصال إلى مصدر شقاء للبشرية أصبح حقيقة من حقائق الوجود المأساوية في جوهرها، ولا سبيل للحد من آثارها إلا بمراجعة متوازنة لحقائق الوجود والإنسان ومسار تطوره في أحشاء الأبد الكبير بعد عصر الثورات والأنوار والاتصال.

أما الشاعر محمد ولد أعلي (موريتانيا) فقال: يعتبر العصر الحالي الربيع الذهبي للخوف، إنه يكسو كل مدن العالم، ويجللها بغلالة صفيقة من النظرات غير المطمئنة. إذ لا يمكنك، وأنت الآتي لسوء حظك إلى النور في هذا العالم الموبوء بفيروس الخوف، الذي لم تخرج المخابر بعد مصلاً لعلاجه، عكس الانفلونزا، إياها، التي يتفاءل المتفائلون بأنه سيتم تحضير مصل كفيل بالقضاء عليها في الأشهر المقبلة، لا يمكنك أن تنام قرير العين عن شوارد المصائب المحدقة بك.

ويضيف ولد أعلي: تصور معي أن الاقتصاد العالمي تجاوز أزمته الحالية بعد كل الخراب الذي تركته هذه الأزمة، خراب من بينه مثلاً ملايين الفقراء، وتعافى هذا الاقتصاد وصار بقوة ألف حصان، وأن الانفلونزا كبحت وأجهز على آخر فلولها، فمن يضمن ألا يضغط متهور أحمق من أولئك الذين ألقى المخبولون أمورهم بأيديهم على زر اطلاق صاروخ نووي، على طواحين الهواء ليأتيه الرد مسرعاً بصاروخ آخر، وتندلع حرب عالمية ثالثة، يكون وقودها البسطاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيها. ولنفرض أنك سلمت من الحرب النووية، فمن يضمن لك ألا تقضي اثر تفجير يقوم به انتحاري، امتشق حزاماً ناسفاً. ودعك من الأحزمة، وقل لي من يمكن أن يحول دون أن يؤدي ترف علمي قام به عالم فارغ الشغل في نصف الكرة الغربي من خلال لعب مارسه في مخبره البارد بجينات بشرية، إلى ظهور سلالات بشرية عملاقة، تقضمنا نحن الضعفاء في دقيقة.

ويتابع: لست على أية حال عالماً في الاقتصاد ولا في علم الفيروسات، لكنني أجزم أن الأزمة المالية والانفلونزا ومن قبلها السارز وشقيقتها، انفلونزا الطيور، كلها من نتاج عمل البشر، وصدق الله ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.

أما الكاتب الحسين ولد محنض (موريتانيا) فقال: ليس جديداً على الإنسان إدراكه بأنه يعيش في وسط معاٍد له بالطبع، فهو يدرك جيداً مدى عدوانية الطبيعة المحيطة به، ويعرف أن مستعمرات بشرية كاملة ذهبت إما ضحية للأوبئة أو الزلازل أو المجاعات أو حوادث الغرق، فقد كانت هذه الحوادث تدهمه في مرة على غفلة منه فتكتسحه قبل أن يتمكن من استعادة عافيته، ومواصلة مسيرته في الحياة والتكاثر على هذه الأرض. لكن الجديد على الإنسان اليوم أنه أصبح بإمكانه بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي أن يتمثل هذه الأخطار ويقيمها، بل ويستشعرها قبل وقوعها أحيانا، فيعيش بعد ذلك على أنغام حركتها وتطورها، متتبعا مسارها إلى آخر دورة لها، وذلك في وقت أصبح فيه عالماً أكثر تحفزاً للبطش بالإنسان بصورة لم يسبق لها مثيل، لأسباب مختلفة بعضها من صنع الإنسان نفسه كالتلوث البيئي والارتفاع المتزايد في درجة حرارة الأرض، وبعضها خارج عن إرادته كتزايد النشاطين البركاني والزلزالي في باطن الأرض. وإذا كان الكل يدرك أن المعرفة تمثل أحد بواعث الخوف لدى الإنسان لأنها تمكنه من تقييم الأضرار الحقيقية للأخطار المحدقة به، فإن القلة تعرف أن الصورة النمطية والمقطعية التي تنقلها وسائل الاتصال عن مناطق مختلفة من العالم في آن واحد تعزز الخوف لدى المتلقي الذي يتولد لديه الانطباع بأن إبادة جديدة تنتظره، كما أن تركيز الإعلام على الأخبار المثيرة أو المقلقة، أو أخبار الحروب والكوارث انسجاما مع طلب المتلقي الذي يفر من الاستماع إلى المألوف أو الممجوج، يعزز بدوره من ظاهرة القلق العام الذي يعيشه إنسان العصر اللاهث اليوم من دون توقف ومن دون وعي، في طواحين حضارة يفتقر المرء فيها إلى الوقت بالمقارنة مع برنامجهم اليومي، ما يفاقم من التوتر العصبي الذي أخذ يجتاح كثيرا من أبناء العالمين الصناعي والنامي، بعدما تحول الإنسان إلى روبوت متحرك يبحث عن طمأنينة مفقودة وسعادة لا تتوفر عليها المادية المهيمنة اليوم، فساهمت كل هذه العوامل مجتمعه في خلق ثقافة خوف في عالم مشحون بالتعاسة، ومفعم بالقلق لا تبزغ شمس نهار جديد من دون أن تقدم وسائل الاتصال للإنسان ما يزيد إضعاف كينونته الداخلية، وشعوره بأن الخلود الذي يطلبه كان منذ الأزل في لاوعيه، متحديا به الموت، يكاد يصبح الآن لكثرة وتزاحم المخاطر من حوله مستحيلا، وإحساسه بأن العالم المعقد الذي نعيشه اليوم أكثر شقاء من أي عالم مضى، وهذا في الحقيقة مأزق لا فكاك للإنسان منه ببساطة.

وفي السياق ذاته قال الكاتب الموريتاني محمد ولد أحبلاله يعود انتشار الخوف العالمي إلى جملة أسباب من بينها أن الإنسان صار يعيش في كابوس نتيجة آراء دعاة الحرب الحضارية من الصهاينة الجدد، الذين يدفعون بالإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى شم رائحة العداء في كل من يخالف وجهة نظر البيت الأبيض، ما جعلها تضاعف حجم الإنفاق على نشر جدران الرعب في كل مكان من العالم. بالإضافة إلى التغيرات المناخية التي تعود إلى إفراط الإنسان في استخدام المواد الضارة بالبيئة والتي تدخل في الصناعات المختلفة، ما أدى إلى زيادة حرارة الأرض وحدوث كوارث التسونامي والزلازل والفيضانات التي اجتاحت مناطق عديدة من العالم. كما أن الأوبئة القابلة للانتقال بسرعة الصوت من أي مكان في العالم إلى أبعد المناطق عنه توفر سببا آخر لعدم طمأنينة إنسان القرن الحادي والعشرين، إلى غير ذلك.. وطبعا حامل هذا الخوف أو المبشر به هو وسائل الاتصال الحديثة التي أثبتت جدارتها في نقل الخوف والتبشير به وترسيخ معرفة الخوف. غير أنه من خلال الهبة العالمية لمساعدة منكوبي الكوارث مثلا، والتي أبلى فيها الإنسان العربي بلاء حسنا بالكساء والدواء والغذاء، تبين للجميع أنه ما زال هناك في قلوب البشر مكان لومضة أمل، تضيء جلابيب ليل الخوف المظلم إن ذلك وجه آخر معه تشعر الشعوب بوحدة المصير الإنساني ودفء علاقات التضامن والأخوة، وضرورة مواجهة التحديات بجهد مشترك.

ويتابع ولد أحبلاله: إنه لجدير بمفكري العالم أن يزرعوا ثقافة الحب والسلام والإخاء بين الشعوب بديلا موضوعيا لنظرية صراع الحضارات التي لم تثمر إلا الخوف والحروب، حيث ما زال في العالم مكان للأمل والحب فلنوسع ذلك المكان قبل أن يقتلنا الخوف، ولنحاول وضع أسس قابلة لنشر المعلومات والأخبار بطريقة أقل كارثية على المتلقي العالمي الذي بات يشعر بالرغبة والفرار من وسائل المعرفة الحديثة التي تدمي قلبه كل لحظة.

أما الكاتب الشيخ ولد أحمد أمين (موريتانيا) قال: انفجار.. تصادم، حريق، تحطم، انهيار، غرق.. مقتل.. انتحار، إفلاس.. أزمة مالية.. انفلونزا خنازير وطيور وقطط.. من يدري؟.. مفردات تصفع طبلة الأذن في كل نشرة أخبار.. لدرجة أن المرء لا يجد محطة تقدم نشرة أخبار خالية من الموت والدمار والفيضان والمعارك الطاحنة في ألف مكان من العالم.. حتى استحقت نشرات الأخبار أن تسمى نشرات أخطار بامتياز. وهو ما يجعلنا نتساءل: هل تحولت النعمة إلى نقمة، هل أصبحت وسائل الإعلام والاتصال فزاعات؟ على الأقل كان العالم قبل اكتشاف هذه الوسائل يعيش همه فقط، ولا يهمه إن طوت الزلازل جانب الأرض الآخر، فأخبارها لا تصله إلا على شح وبعد شقة. ولكنما هي عواقب العولمة والقرية الكونية الواحدة، التي تجعل الفيروس يصبح في مكسيكو ويمسي في طوكيو. ولا يجدي إغلاق الحدود، فلن تستطيع إغلاق بوابات المطارات في وجه أبناء الوطن الذين يعيشون في الخارج، إذا ما أغلقتها في وجه الآخرين، على أن كلا الأمرين مستحيل. والعصر الحالي على تقدمه العلمي والتقني لم ينجح في توفير ضمانات للإنسان، وغدت وسائله المتطورة ناقلة للخوف.. فأين المفر؟.

أما الباحث والمفكر السيد ياسين (مصر) فقال: أبرزت الأزمة الاقتصادية العالمية الآثار السلبية للعولمة وذلك لأن الرأسمالية المتوحشة التي أطلقت عقالها منظمة التجارة العالمية التي تحيزت لصالح الدولة الصناعية المتقدمة وضربت عرض الحائط بمصالح الدول النامية، قد أدت إلى تهميش هذه الدول من دورة الإنتاج الفعال، ما منعها من إشباع الحاجات الأساسية لجماهيرها، وارتفعت أعداد الفقراء الذين إن لم يجدوا منفذا للعدل الاجتماعي فليس أمامهم سوى التمرد واستخدام العنف سلاحا ضد الحكومات الفاسدة التي لم تستطع أن تصوغ خططا قومية للتنمية المستدامة تضع قضية التوازن الطبقي في المقدمة ولا تصاغ لصالح الأغنياء حتى يزدادوا غنى ويزداد الفقراء فقرا.

ويتابع ياسين: هناك حاجة إلى نظرة نقدية للاقتصاد العالمي لكي نرصد جغرافية الفقر وآثاره المدمرة على الاستقرار السياسي للدول وعلى الصحة النفسية للشعوب والمجتمعات وأبرز ملامح الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي هو الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي، حيث كان المفهوم المحوري في المجتمع الأول هو السوق حيث يتم تبادل السلع المصنعة وفي المجتمع المعلوماتي فإن المفهوم المحوري هو الفضاء المعلوماتي، وهذا التحول الكيفي العميق في بنية المجتمع العالمي له أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية ولكن أهم هذه الأبعاد قاطبة هو تغييره من طبيعة الرأسمالية التقليدية التي كانت تركز على إنتاج السلع من خلال عمليات تصنيع ثقيلة وخفيفة إلى الرأسمالية المعلوماتية التي تركز الآن على إنتاج العلامات والصور مستفيدة من الثورة الاتصالية الكبرى وعلى رأسها شبكة الإنترنت. كما كشفت الأزمة الاقتصادية عن ضرورة تدخل الدول لتنظيم الأسواق والرقابة عليها، ومن الواضح أن الأزمة كانت نتيجة السلوكيات غير الأمينة والتلاعب الصريح لبعض البنوك الرئيسية في العالم بالتواطؤ مع شركات التأمين وأظهرت الأزمة أن الحلول على المستوى القطري لا تكفي وأن هناك حاجة إلى زيادة الرقابة ومحاربة المتلاعبين على المستوى العالمي. وهو ما ويؤكد أننا أمام عالم جديد يبزغ على أنقاض العالم القديم وهو عالم بالغ التعقيد ويفتقر إلى اليقين.

أما الدكتور محمد عناني فقال: للمعرفة شقان يعتبران وجهين لعملة واحدة، الأول: هو الإحاطة بما في الكون أي زيادة وعي الإنسان بمحيطه الذي يعيش فيه والبيئة الطبيعية وكيف يتواءم معها، وهذا الجانب له وجهان أيضا: الأول زيادة طاقة الإنسان على التحكم في الدنيا، والجانب الآخر هو أن يعالج ما كان ناقصا ويسد الفجوات التي تركها الأقدمون شاغرة وهو مجملا جانب طيب يعود بالخير على الإنسان، أما الجانب الآخر فهو توهم الإنسان بسبب المعرفة أنه أصبح سيد مصيره ما دفعه إلى التعالي على الوجود والإحساس بالثقة التي تقترب من الغرور ومن ثم فهو جانب سيئ لأنه يدفع الإنسان إلى تجاهل القيم الإنسانية، والظلم. وهذا الشق سيئ للمعرفة فمثلا: على الرغم من الثراء الفاحش الذي حققه أصحاب رؤوس الأموال في أمريكا العام الماضي فإنهم طمعوا في المزيد ما أدى إلى انهيار نظام الرهن العقاري وإفلاس الكثير من الشركات والبنوك، ونظرا للصلة الوثيقة بين النظم الرأسمالية العالمية فقد استشرى الانهيار والإفلاس في باقي دول العالم وتداعت بهذا المرض سائر أعضاء جسد الاقتصاد العالمي في أوروبا الغربية واقتصادات بلدان لم يكن لها يد في الأزمة الاقتصادية الأمريكية مثل اقتصادات الصين واليابان لاعتمادها جميعا على التعاون التجاري مع هذه الدول المتقدمة ومن ثم بدأت الدول الصغرى تعاني بسبب ما سميته الشق السيئ للمعرفة ألا وهو الطمع النابع من الإحساس الدائم بامتلاك الدنيا والسيطرة عليها.

ويتابع د. عناني: ويمكننا أن نرى الأمور بالمقاييس ذاتها، فقد جاءت إنفلونزا الطيور ثم إنفلونزا الخنازير التي تجتاح العالم الآن في صورة وباء لا سبيل إلى السيطرة عليه وهذا الوباء، نبع نتيجة عدم التنبه إلى قيمة من قيم العلم ألا وهي رعاية النفس البشرية، وعندما ظهر هذا الوباء في المكسيك كان من المفترض أن يكون هذا جرس انذر ينبه العالم إلى خطورة هذا الوباء ولكن الطمع وتجاهل قداسة روح الإنسان منع الناس من اتخاذ ما ينبغي من احتياطات واستمر الناس في الانتقال من مكان إلى مكان طلبا للكسب، ما أدى إلى تفشي الوباء على رقعة واسعة من المعمورة. ولو أن العلماء انتقلوا بعلمهم لقضوا على الإنفلونزا في مهدها، ولكن للأسف أصيب عدد كبير من الفقراء وكبار السن والأطفال الذين سيذهبون ضحية نتيجة سلوكيات الذين يتصورون أن الدنيا دامت لهم.

كما يرى الدكتور يوسف نوفل أن الإنسان نفسه وراء إنتاج ثقافة الخوف واستثمارها فقال: الكوارث التي يواجهها العالم اليوم هي من صنع الإنسان وليست كوارث كونية فمنذ اللحظة الأولى لاندلاع التلوث الأعظم الذي نتج عن إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين عام 1945 والذي تسبب في تلوث الهواء والآفاق والبحار والمحيطات والطعام كما تنتج عنها الكثير من التشوهات للبشر والأجنة في بطون أمهاتها وانتشار الأورام السرطانية وأعقب ذلك الانتشار الرهيب لمرض الأيدز، وكنا في القرن الماضي عندما نتذكر هذه الحادثة يصيبنا الهلع جراء الرعب النووي الذي أصبح متواضعا في مواجهة أمراض العصر أمام ما تعانيه البشرية الآن وما ستعانيه في المستقبل القريب بسبب نشاط البحوث العلمية التدميرية في مجال حرب الجراثيم، ما يجعلني أجزم على وجه اليقين بأن إنفلونزا الطيور والخنازير من صنع الإنسان المعاصر وستكشف الأيام مستقبلا عن معامل ومراكز أبحاث وعلماء تخصصوا في هذا المجال في ربع القرن الأخير من القرن الماضي وما أدرانا ما سيحدث خلال عقد مقبل من الزمان. كما أن التحالف الأمريكي الصهيوني الذي تسبب في حدوث الأزمة الاقتصادية العالمية بسبب ما يسمى أفيون قروض الائتمان الذي أتاح للمسرفين الغافلين اللاهثين وراء المتعة والامتلاك أن يمتلكوا كل بطاقات الائتمان التي تتيح لهم السحب على المكشوف مما تسبب في تبديد أرصدة البنوك دون ضمانات كافية أو مصدر تعويض فهدم المعبد على من فيه وانكشف زيف الحضارة المادية المعاصرة التي تتشدق بقيم ليست في الحقيقة إلا سرابا.

من جهة أخرى يرى الدكتور الطاهر مكي أن تضخيم أي ظاهرة من شأنه أن يشيع الخوف ويحوله إلى ثقافة عامة فقال: الغرب يضخم أشياء كثيرة لإرهاب الشعوب المتخلفة، بدليل أننا لم نقرأ عن إغلاق المدارس في أي بلد أوروبي حتى الآن لسبب بسيط، فالفصول الدراسية ليست مكتظة والشوارع نظيفة والهواء غير ملوث والأطعمة ليست فاسدة ومن الطبيعي أنه عندما يظهر المرض يتم القضاء عليه من دون رعب أو خوف ولكن الإعلام الزائف لدينا يضخم المسألة وبالتالي يصاب الناس بالذعر، ولا أرى مبررا لهذا الرعب مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تدبير كافة الاحتياطات وطرق الوقاية، وأعتقد أن شركات الأدوية العالمية هي التي تروج لهذا الوباء حتى تستطيع تصريف منتجاتها في أسواق الدول الفقيرة والمتخلفة. كذلك تركت الأزمة الاقتصادية العالمية ظلالها علينا لاستشراء الفساد في شرايين المجتمع.

أما الدكتور عبد المنعم تليمة فيرى أن المهمة الرئيسية للمعرفة اليوم أصبحت البحث عن حلول فقال: الأزمات والكوارث العالمية تجاهلت الأيديولوجيات والمصالح الصغرى، وتوحدت الجهود من أجل مواجهة هذه الكوارث حيث زاد التدفق في المعلومات وتبادل الخبرات لأن الجنس البشري في مركب واحد، ومؤخرا نجحت الصين في تجهيز لقاح إنفلونزا الخنازير ما أحدث انفراجة في القضاء على المرض كما أن الأزمة الاقتصادية العالمية في طريقها إلى الزوال، وفي الماضي عندما كانت الأمراض محلية مثل مرض الكوليرا الذي انتشر في مصر عام 1947 حصد أرواح عشرات الآلاف من المواطنين، أما اليوم فعندما يصبح المرض وباءً عالميا تتكاتف كل جهود دول العالم بحثا عن مخرج ودواء للمرضى، فالتكنولوجيا أسهمت في حل مشكلات العالم وليس تعقيدها، وأصبح هناك تحول في مجال الدراسات المستقبلية من رصد وتسجيل التوقعات إلى دراسة وتحليل الأفكار وبالتالي الانتقال من مستوى التنبؤات التي قد لا تتحقق إلى مستوى البحث عن حلول إبداعية للمشكلات والتعرف على الإمكانات وقدرات التغيير.

من جهة أخرى قال الناقد فاضل ثامر رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين: هذا الواقع يؤكد حقيقة مهمة وهي أن المعرفة دائماً سلاح ذو حدين فهي قد تكون منطلقاً للسعادة وللأمل ولكشف آفاق تضمن في مساعدة الإنسان وقد تكون على عكس ذلك. قد تكون سبيلاً للدمار والخراب كما هو الحال بالنسبة لاكتشاف البارود والقنبلة الذرية والكثير من وسائل الإبادة الجماعية ضد البشر.

وأضاف: نشهد حالياً حدوث فوبيا ثقافية على مستوى عالمي كبير، لكن لا أعتقد أن السبب لا يعود إلى المعرفة بحد ذاتها، لكن هناك حالة موضوعية خارجية تقع خارج نطاق الثقافة تتمثل بوجود حالة وبائية عالمية مثلما نقول توجد حالة حروب عالمية، فالثقافة غير مسؤولة، لأن الثقافة هي متلقية، وهي سطح المرآة الذي يعكس حالة موضوعية معينة ولهذا لن تتحول إلى ثقافة تشيع الفوبيا. وأنا أعتقد أن الوطن العربي في حالة تماسك ازاء ذلك. حيث توجد رغبة في نشر وسائل ثقافة للوقاية من مختلف الأمراض وفي مقدمة هذه الأمراض الوبائية الخطيرة مرض انفلونزا الخنازير.

ويتابع ثامر: تقف الثقافة إلى جانب الإنسان من أجل طرد هذه الهواجس والمخاوف بحيث تمنح الأمل ولا تثير المخاوف. في حين أن المخاوف تأتي من كوارث طبيعية أو من أمراض موضوعية حصلت خارج إطار الفعل الثقافي. فالثقافة بريئة من تهمة إشاعة فوبيا لا تخدم قضية المستقبل والإنسان والأمل.

أما الفنانة التشكيلية نهلة حسين (العراق) فقالت: الأزمة المالية التي ضربت العالم أثرت من دون أدنى شك على الثقافة وخصوصاً بما يتعلق بعملية شراء اللوحات وإقامة المعارض الفنية لها. لكن في العراق قد تكون الحالة مرت بشكل طبيعي على اعتبار أن الأزمات التي يمر بها العراق هي أقسى بكثير من الأزمة المالية. كما أن لوباء انفلونزا الخنازير هو الآخر تأثيراً على الثقافة في العالم، لأنه أدى إلى منع إقامة الكثير من المهرجانات والمعارض الفنية خشية انتشار المرض. لكن تبقى أزمات العراق أكبر من هذا الوباء على اعتبار أن التفجيرات التي تحصل في البلدان تحصد أرواح العشرات من الأبرياء العراقيين.

أما الشاعر العراقي عمر السراي فقال: يعاني المثقف بشكل عام والعراقي على وجه الخصوص من عزلة وقطيعة كبيرة من الوسائل العالمية. كما يعاني عزلة كبيرة من الهياكل الإدارية، وهو أبعد ما يكون عن الأزمة المالية وكذلك أبعد ما يكون عن الأمراض التي استطاعت أن تثير الخوف. لذلك فإن روح الفتوة التي يحملها المثقف استطاعت أن تكسر أقطاب كل قمامات الخوف. لذلك نلاحظ أن المثقفين هم شريحة تعتز بكينونتها ولا يهمها السقوط في شيء ما. حيث إن هناك مثلاً شعبياً يقول: إن المفلس بالقافلة أمين. فربما يكون المثقف مفلساً من الأمور المالية لأنه مملوء بأمور ثقافية كبيرة، لذلك هو لا يحبذ أن يخاف. كذلك الشاعر الذي يحمل لواء الشجاعة دائماً هو الذي يقارع أعتى المدود، ولا أعتقد أنه يخاف من موت وخير مثال على ذلك الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب وإن تحول الموت إليه هاجساً في آخر لحظات حياته، إلا أنه مارس كل الحياة بعيداً عن هذه الأمور.

وأضاف: إن الدور هنا يكمن لدى المثقف أن يشيع روح الجمال لدى الآخرين الذين يخافون، لدى من يتمسك بالحياة، لأن من يخاف هو معتز بحياة زائلة. أما المثف فيعتبر نتاجه الثقافي من كتاب أو عمل جمالي يطل به على الكون هو الحياة التي يعيشها. لذلك لا سبيل أمام أزمة ولا سبيل أمام مرض ما أن يعززا روح الخوف لدى المثقف. لذلك أعتقد بأن الشريحة التي خرجت بصورة كبيرة ومنتصبة، رافعة الجناح أمام كل هذه الأزمات الخائقة هي شريحة المثقفين.

أما الشاعر ياس السعيدي رئيس نادي الشعر في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين فقال: إن الشعر مرتبط بما حوله من عوالم، فكل أزمة تعصف بالمجتمع ستصيب بشكل مباشر أو غير مباشر الحركة الأدبية أو الإبداع والشعر على وجه التحديد، حيث أثرت الأزمة المالية على المستوى الثقافي، لأن المؤسسات الثقافية تحتاج الأموال لكي تطبع منشورات مبدعيها مثلاً، وتحتاجها من أجل كل مفصل من مفاصل الحياة الثقافية أو الأدبية، لأن النظرة الكلاسيكية غير الجدية للمال وكأن المال تهمة وكما يقول الشاعر الكبير محمد الماغوط: الناس يتصورون أن الشاعر ملاك لا يمرض ولا يجوع ولا يعرى لذلك فإن المثقف يحتاج إلى الأموال والحركة الثقافية بصورة عامة تحتاج إلى الأموال لفرض إدامة تواصلها مع العالم وتنفيذ مشاريعها. أما بما يتعلق بوباء انفلونزا الخنازير فإنني لا أتصور أن هناك تأثيراً مباشراً لهذا الوباء على الثقافة إلا من خلال ناحية جزئية معينة وهذه الناحية تتمثل في الإحجام عن السفر خوفاً من انتقال هذا الوباء أو قد تلغى بعض المؤتمرات وبعض المهرجانات نتيجة للمخاوف الكبيرة من انتشار هذا الوباء. هذا تأثير لكنه جانبي سيزول بزوال المؤثر.

عزلة المثقف

يعاني المثقف بشكل عام والعراقي على وجه الخصوص من عزلة وقطيعة كبيرة من الوسائل العالمية. كما يعاني عزلة كبيرة من الهياكل الإدارية، وهو أبعد ما يكون عن الأزمة المالية وكذلك أبعد ما يكون عن الأمراض التي استطاعت أن تثير الخوف. لذلك فإن روح الفتوة التي يحملها المثقف استطاعت أن تكسر أقطاب كل قمامات الخوف. لذلك نلاحظ أن المثقفين هم شريحة تعتز بكينونتها ولا يهمها السقوط في شيء ما. حيث إن هناك مثلاً شعبياً يقول: إن المفلس بالقافلة أمين. فربما يكون المثقف مفلساً من الأمور المالية لأنه مملوء بأمور ثقافية كبيرة، لذلك هو لا يحبذ أن يخاف. كذلك الشاعر الذي يحمل لواء الشجاعة دائماً هو الذي يقارع أعتى المدود، ولا أعتقد أنه يخاف من موت وخير مثال على ذلك الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب وإن تحول الموت إليه هاجساً في آخر لحظات حياته، إلا أنه مارس كل الحياة بعيداً عن هذه الأمور.

آثار مدمرة

هناك حاجة إلى نظرة نقدية للاقتصاد العالمي لكي نرصد جغرافية الفقر وآثاره المدمرة على الاستقرار السياسي للدول وعلى الصحة النفسية للشعوب والمجتمعات وأبرز ملامح الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي هو الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي، حيث كان المفهوم المحوري في المجتمع الأول هو السوق حيث يتم تبادل السلع المصنعة وفي المجتمع المعلوماتي فإن المفهوم المحوري هو الفضاء المعلوماتي، وهذا التحول الكيفي العميق في بنية المجتمع العالمي له أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية ولكن أهم هذه الأبعاد قاطبة هو تغييره من طبيعة الرأسمالية التقليدية

حالة موضوعية

نشهد حالياً حدوث فوبيا ثقافية على مستوى عالمي كبير، والسبب لا يعود إلى المعرفة بحد ذاتها، لكن هناك حالة موضوعية خارجية تقع خارج نطاق الثقافة تتمثل بوجود حالة وبائية عالمية مثلما نقول توجد حالة حروب عالمية، فالثقافة غير مسؤولة، لأن الثقافة هي متلقية، وهي سطح المرآة الذي يعكس حالة موضوعية معينة ولهذا لن تتحول إلى ثقافة تشيع الفوبيا. والوطن العربي في حالة تماسك ازاء ذلك. حيث توجد رغبة في نشر وسائل ثقافة للوقاية من مختلف الأمراض وفي مقدمة هذه الأمراض الوبائية الخطيرة مرض انفلونزا الخنازير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"