العراق بين الواقع والصور المنمقة

01:43 صباحا
قراءة 4 دقائق

في أواخر شهر مارس/آذار الفائت، تحدث الميجور جنرال ديفيد بيركنز من الجيش الأمريكي، للصحافيين في بغداد، عن المرات التي هوجم فيها الجيش الأمريكي في العراق قائلاً: الهجمات في أقل معدلاتها منذ اغسطس/آب 2003. وأضاف: كانت الهجمات في السابق بمعدل 1،250 عملية في الاسبوع، أما الآن فإنها تكون أحياناً دون مستوى المائة عملية في الأسبوع.

على الفور، احتلت تعليقات بيركنز مانشيتات بعض الصحف وأجهزة الإعلام الأمريكية التي انتشت بها، بيد أن هذه التعليقات لم تجلب العزاء لأسر 28 عراقياً قتلوا في هجمات متفرقة في العراق في اليوم التالي لتصريحات بيركنز مباشرة، وكذلك، لم تكن تصريحات بيركنز سلوى لأقارب ال 27 عرقياً لقوا مصرعهم في هجوم انتحاري في 23 مارس/آذار، ولن تواسي حتى الناجين من تفجير محطة حافلات في بغداد، وفي هذا الحادث قتل ثمانية عراقيين وكتب القدر حياة جديدة لباقي العراقيين في المحطة المشؤومة، والحادثان الأخيران كانا في يوم واحد، 23 مارس/آذار.

ها أنا قد عدت لتوي من العراق، بعد أن اختبرت العيش في بغداد حيث يموت الناس بمعدلات يومية جراء العنف، وتقريباً إلى يوم من الشهر الذي قضيته هناك، شهد تفجير سيارة مفخخة في مكان ما في العاصمة، وخلال هذا الشهر، كانت المنطقة الخضراء في بغداد تتعرض للقصف بشكل شبه يومي، أما حوادث الخطف، فتجري كل يوم. وفي الأيام الجيدة كانت شبكة الكهرباء، تمنح سكان بغداد، أربع ساعات فقط من التيار الكهربائي، وكل ذلك يحدث في دولة يحتلها الجيش الأمريكي منذ سبعة أعوام، دولة أصبح فيها حالياً أكثر من 200،000 مقاول ومتعاقد خاص.

وعند عودتي لبلادي، هالني الانفصام بين ذلك الواقع المؤلم، الذي يتعايش معه 25 مليون عراقي، وسريالية الزيف في الولايات المتحدة حيث تتظاهر أجهزة الإعلام إما بعدم وجود احتلال في العراق، أو تستغل معيار تقلص عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية كمقياس للنجاح. فأجهزة الإعلام في أمريكا، تبرز أمثلة تصريحات الميجور جنرال بيركنز، الذي قال: لو تمعنتم في وفيات الجنود، التي تعتبر مؤشراً على حجم العنف والقتل في العراق، فستدركون أن وفيات الجيش الأمريكي في أدنى مستوياتها منذ أن بدأت الحرب قبل ست سنوات، بيد أن معايير الميجور جنرال بيركنز والإعلام الأمريكي، لن تسعف المرء عندما ينظر للصورة الكبرى والحقيقة داخل العراق، حيث الذبح اليومي للعراقيين، والغياب شبه الكلي لفاعلية البنيات الأساسية، ناهيك عن الحقائق المؤلمة الأخرى، فواحد من كل ستة عراقيين لا يزال مشرداً، ولقي 1،2 مليون عراقي على الأقل مصرعهم نتيجة الغزو، والاحتلال الأمريكي لبلدهم.

وتشير التقديرات المحافظة إلى أن اكثر من 607 مليارات دولار أنفقت على حرب العراق، خلفت 2،2 مليون مشرد داخل العراق، و2،7 مليون لاجئ وقتل جراء الحرب والاحتلال 2615 أستاذاً جامعياً وعالماً وطبيباً، قتلوا بدم بارد، وهنالك أكثر من 338 صحافيا لقوا مصرعهم. وبددت الحكومة العراقية الحالية أكثر من 13 مليار دولار بسبب سوء الإدارة، والبنيات الأساسية في العراق تحتاج لأكثر من أربعمائة مليار دولار لكي تنهض من جديد بعد انهيارها جراء الحروب والاحتلال والحصار.

والبطالة تتراوح معدلاتها بين 25 70%. وحوادث تفجيرات السيارات بلغت 24 حادثاً في الشهر، وتفشت الأمراض مثل الكوليرا، وارتفعت لتصل إلى عشرة آلاف حالة كوليرا في العام، ويضاف إلى جردة حساب الاحتلال الأمريكي للعراق، مقتل 4261 جندياً أمريكياً، كما أن أكثر من 70 ألف جندي أمريكي أصيبوا بإصابات تراوحت بين الأذى الجسدي والنفسي.

دولة بوليسية

وفي بغداد، لا توجد حياة طبيعية، صحيح أن العنف تقلص مقارنة بالعام ،2006 عندما كان ما بين 100 إلى 300 عراقي يذبحون يومياً، بيد أن العراق قد تحول الآن إلى دولة بوليسية تماماً، أكثر من أي وقت مضى. فقوافل السيارات الأمريكية الضخمة، المدرعة، تجوب الشوارع والطرقات وتعيق الحركة، ومن المستحيل السير لأكثر من خمس دقائق من دون التوقف أمام دورية عسكرية أو شرطية عراقية، وتتكون هذه الدوريات عادة من عربات نصف نقل ملأى برجال مسلحين.

ويوجد في أي تقاطع طرق مجموعات من الشحاذين والمتسولين، من النسوة والاطفال يهيمون بين السيارات. ومن الأشياء المألوفة في العراق، أصوات المروحيات العسكرية، وهدير المقاتلات الأمريكية التي تجوب سماوات بغداد وبقية المدن العراقية باستمرار. وطبعاً لا أحد يتحدث عن تعويض العراقيين عن الموت، والدمار، والفوضى الناجمة من الاحتلال.

العراق يتشظى

حتى الأحياء أصبحت معزولة عن بعضها ومقسمة إلى أحياء سنية، وأخرى شيعية، وازدادت حدة هذا الفصل الطائفي بعد عملية تعزيز القوات الأمريكية في العراق.

وغدت أحياء بأكملها، تضم اكثر من 300،000 نسمة مسيجة بجدران اسمنتية عالية جعلت الحياة العادية داخل هذه الأحياء مستحيلة.

ويشعر العراقيون بالخوف، ويبدون قلقين من عودة العنف مرة أخرى، لأن الأوضاع تبدو غير مستقرة، ولا أحد يمكنه التنبؤ بالمستقبل، والأمل في تحسن واستقرار أي وجه من أوجه الحياة، يعد ضرباً من السذاجة.

إن الفيلم الوثائقي الذي يحمل اسم، العراق يتشظى، الذي أخرجه جيمس لونغلي، والذي حاز ترشيحاً لجائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي في العام ،2007 يمكن اعتباره أفضل توصيف لحالة العراق اليوم. فالبلاد دمرت نتيجة سنوات من السياسات الأمريكية التي أفسدت حياة العراقيين.

وإذا عدنا بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء، إلى العام 1980 تحديداً، سنرى الحكومة الأمريكية تدعم العراق وايران معاً في حربهما البشعة التي استمرت ثمانية أعوام، وفي العام 1991 رأينا حرب جورج بوش الأب على العراق، ثم حصار الإبادة الاقتصادي الذي أشرف عليه بوش وكلينتون لمدة 12 سنة ونصف، وأدى لمصرع نصف مليون طفل عراقي. أما اليوم فما تبقى من العراق، تحت ادارة أوباما، يختبئ خلف الأنقاض والأطلال، ولا يبدو ان هنالك بارقة أمل تلوح في الأفق، تؤشر لقرب زوال الاحتلال.

وكل الأحاديث والنقاشات الدائرة حالياً، والتي تؤكد دنو انسحاب القوات الأمريكية من العراق، هي مجرد ثرثرة فارغة بالنسبة لغالبية العراقيين، الذين يرون بأعينهم القواعد العسكرية الأمريكية العملاقة، تتكاثر في بلادهم، ويشاهدون أيضاً، مباني السفارة الأمريكية الجديدة التي تناهز مدينة الفاتيكان في ضخامتها.

والفرق شاسع بين الخطب الكلامية عن الانسحاب، والواقع على الأرض. والشعب العراقي يكتوي بمرارة هذا الواقع، ويجتر ألمه يومياً.

#183; محرر يعمل مع وكالة إنتربرس،

#183; وصحيفة آسيا تايمز ويكتب تقارير

من داخل العراق، وألف كتاباً عنه.

ترجمة: محمد إبراهيم فقيري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"