فنزويلا.. الهجوم الاستراتيجي الأمريكي

03:23 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

الحملة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية العاصفة، التي تشنها الولايات المتحدة ضد فنزويلا، ورئيسها نيكولاس مادورو؛ تمثل استمراراً وتصعيداً لسياسية أمريكية عدائية، مارستها واشنطن ضد كاراكاس منذ انتخاب الرئيس اليساري الراحل هوجو تشافيز، رئيساً للبلاد عام 1999، وهي السياسة التي وصلت إلى حد دعم انقلاب (عسكري/مدني) ضده في إبريل/نيسان 2002 شارك فيه رجال أعمال كبار، إلى جانب عدد من الجنرالات، وتمكن من اعتقال شافيز بالفعل، إلا أن تحرك أغلبية الجيش إلى جانب حشود الجماهير أسهم في إطلاق سراح تشافيز، وإعادته إلى قصر الرئاسة، بينما هرب المتمردون.
أشارت فنزويلا ومؤيدوها إلى الولايات المتحدة بالاتهام، ليس بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة فحسب، وإنما بالضلوع في تدبيرها، وكذلك بالوقوف وراء الضغوط والتحركات السياسية والجماهيرية والنقابية (خاصة إضرابات نقابات عمال النفط) طوال فترة حكم شافيز، حتى وفاته عام 2013، ثم ضد خليفته نيكولاس مادورو.
واللافت للنظر أنه رغم العداء السياسي بين البلدين، إلا أن علاقاتهما الاقتصادية كانت تنمو باستمرار على أساس براجماتي، حتى إنها خلال عشر سنوات من حكم تشافيز قد تضاعفت عدة مرات!!، وهو ما يجد تفسيره، أساساً، في أن أمريكا خلال تلك الفترة، كانت بحاجة لاستيراد كميات كبيرة من النفط، التي تعد فنزويلا مصدراً مثالياً له؛ بحكم الموقع الجغرافي، وبغض النظر عن العداء السياسي.
ويجد الموقف العدائي من جانب الولايات المتحدة تجاه نظام تشافيز - ثم مادورو - تفسيره المباشر في أن أمريكا لم تستطع أبداً أن تتقبل فكرة وجود نظام يساري معادٍ لها في أحد بلدان أمريكا اللاتينية، التي ظلت واشنطن على مدى نحو قرنين من الزمن تعدها «حديقتها الخلفية»، خاصة حينما يكون هذا البلد (فنزويلا) مالكاً لأكبر احتياطي من النفط في العالم (300 مليار برميل)، وأحد كبار المنتجين في العالم؛ من حيث طاقته الإنتاجية؛ بغض النظر عن التعثر الحالي في إنتاجه.
ومن ناحية أخرى، فقد اتجهت فنزويلا في عهد تشافيز إلى توثيق علاقاتها بالصين وروسيا، اللتين تعدان من أبرز منافسي الولايات المتحدة على الساحة الدولية، كما لعبت دوراً مهماً في منظمة «الأوبك»، باتجاه تحديد الحصص الإنتاجية، بما يؤدي إلى دعم أسعار النفط.
أما على مستوى أمريكا اللاتينية، فقد مثلت فنزويلا أحد أنشط أعضاء التحالف اليساري المناوئ للولايات المتحدة، وفي مقدمتها كوبا (التي أمدها تشافيز بمساعدات نفطية، بما ساعد على إفشال جهود واشنطن لمحاصرتها)، البرازيل (في عهد لولا داسيلفا وخليفته ديلما وسيف وبوليفليا بزعامة موراليس، ونيكارا جوا تحت حكم أورتيجا) والأرجنتين (حينما كانت تحكمها كريستينا كيرشنر).
ومعروف أن الولايات المتحدة تعد أن الهيمنة على أمريكا الجنوبية والوسطى (التي يطلق عليها اصطلاحاً تسمية أمريكا اللاتينية) هو أحد أهم أسس سياستها الخارجية منذ أوائل القرن التاسع عشر، بمقتضى «مبدأ مونرو»، الذي تم إعلانه عام (1823)، الذي يحمل اسم الرئيس الأمريكي وقتذاك، ويتكون هذا المبدأ من شقين أحدهما: هو الانعزال عن أوروبا وحروب وصراعات إمبراطورياتها الاستعمارية. وثانيهما: هو بسط هيمنة الولايات المتحدة على أمريكا الجنوبية (والوسطى)، واعتبارها «حديقة خلفية»، ومجالاً للمصالح الحيوية لواشنطن، لا يجب السماح لأية قوة أخرى بمنازعتها فيه.
ظلت واشنطن طوال القرن التاسع عشر، وحتى تسعينات القرن العشرين، تمارس هيمنة سياسية واقتصادية وعسكرية مطلقة على أمريكا اللاتينية، بالتحالف مع النخب المحلية ذات الطابع الإقطاعي أو شبه الإقطاعي/شبه الرأسمالي ( والنخب العسكرية طبعاً) في بلدان القارة اللاتينية، وكلها نخب تابعة أو عميلة، ومع احتفاظ واشنطن بحق التدخل العسكري (لضبط الأوضاع وإعادتها إلى نصابها) في أي بلد يخرج عن الإطار الأمريكي المرسوم، بما في ذلك قمع التحركات الجماهيرية والسياسية المعارضة، وهو ما حدث في بلدان أمريكية لاتينية عدة؛ منها: كوبا (1898) وجواتيمالا( 1954) وهايتي، وبنما وجرينادا وغيرها.
ثم كان انتصار الثورة الكوبية (1959)، وفشل محاولة غزو المتمردين للجزيرة بمساعدة أمريكية مباشرة (خليج الخنازير/1961) المؤشر لتحول مهم؛ ذلك أن ثورة الاتصالات والمواصلات والإعلام والتطور الاقتصادي والاجتماعي في بلدان القارة، ومساعدات المعسكر السوفييتي (وكوبا) في زمن الحرب الباردة كلها كانت تعد أموراً أدت إلى انتشار الأفكار الثورية واليسارية في أمريكا اللاتينية، وظهور (أو تعزيز قوة) أحزاب وتنظيمات عدة على أساس هذه الأفكار، ووصل بعضها إلى السلطة من خلال الانتخابات (تشيلي مثلاً) أو من خلال الكفاح المسلح (نيكاراجوا مثلا)، وبدا واضحاً أن الولايات المتحدة لا تستطيع إحكام قبضتها على أمريكا اللاتينية، كما كانت الحال في زمن سابق.
كل هذه التطورات ذات الطابع الاستراتيجي، كانت تمثل هزيمة لأمريكا في «حديقتها الخلفية»، وجرس إنذار بضرورة صياغة «استراتيجية لهجوم مضاد» شامل في أمريكا اللاتينية، باستخدام كل وسائل العمل السياسي والإعلامي والمخابراتي، بالتحالف مع أنصار أمريكا المحليين، وطبعاً بالاستفادة من أخطاء الخصوم اليساريين قدر الإمكان، والعمل على تشويه سمعتهم، وجعل عودتهم لاحتلال مكان بارز في الحياة السياسية لبلادهم يعد أمراً بالغ الصعوبة، وهكذا تم إعداد ملف لمحاكمة لولا داسيلفا (البرازيل) بتهمة الفساد، وإدانته، ثم عزل ديلما وسيف أيضاً من جانب مجلس الشيوخ البرازيلي بتهمة الفساد، وتنصيب نائبها مكانها، مع أن تهم الفساد تلاحقه هو الآخر!!
وفي الأرجنتين تم إعداد ملف بتهمة الفساد أيضاً للرئيسة السابقة (لولايتين) كريستينا كيرشنر، ورفع الحصانة البرلمانية عنها (عضو في مجلس الشيوخ)؛ بهدف إدانتها ومنع إعادة ترشيحها للرئاسة، مع دعم مرشح يميني، فاز بالرئاسة فعلاً، أما في نيكاراجوا فيواجه الرئيس أورتيجا- العائد للرئاسة بانتخابات ديمقراطية- ضغوطاً شديدة، وحرباً إعلامية، ودعماً كبيراً للاتجاهات اليمينية الموالية لأمريكا.
..وأخيراً جاء الدور على فنزويلا، بالعقوبات، ودفع رئيس البرلمان لإعلان عزل الرئيس (حتى دون تصويت في البرلمان) وعلى الفور اعترفت به أمريكا، وأعلن ترامب أن «كل الخيارات مطروحة» ضد نظام مادورو، بما فيها الخيار العسكري، ويتم اتخاذ عدة إجراءات اقتصادية خانقة ضد كاراكاس، بما فيها مصادرة (الأصول الخارجية) لمصلحة «الرئيس» الجديد.
الخيار العسكري يبدو صعباً ومكلفاً للغاية؛ نظراً لقوة الجيش الفنزويلي والشرطة والميليشيات الشعبية، وأغلبيتها مؤيدة لمادورو، ويبدو تكتيك الخنق الاقتصادي والدبلوماسي وإثارة الحرب الأهلية، هو التكتيك المرجح، وبغض النظر عن التوتر الشديد الذي سينتج عن مختلف السيناريوهات سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
وإذا قدر للهجوم على فنزويلا أن ينجح في إطاحة مادورو، فإن الدور سيكون على بوليفيا (موراليس) ونيكاراجوا (أورتيجا) وربما على كوبا، رغم صعوبة تحقيق ذلك.
فالهجوم المضاد الاستراتيجي لن يستثني أحداً (خاصة في ظل سياسة ترامب العاصفة).

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"