بوتين يهندس روسيا الجديدة

02:41 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نورهان الشيخ *

في رسالته الرئاسية السنوية للجمعية الفيدرالية، التي تضم غرفتي البرلمان الروسي، مجلس الدوما ومجلس الاتحاد، في ال 15 من يناير / كانون الثاني، اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إدخال مجموعة من التعديلات على الدستور الروسي.
على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها تعديل الدستور الروسي، وسبق أن أُدخلت تعديلات مهمة في نوفمبر / تشرين الثاني 2008 وفبراير / شباط 2014، ولأن ذلك يمثل شأناً داخلياً روسياً، فإن الخطوة حظيت باهتمام واسع النطاق في محاولة لفهم أبعادها وتداعياتها، ولا سيما على السياسة الخارجية الروسية، وكذلك مستقبل الرئيس بوتين في النظام الروسي عقب انتهاء فترة رئاسته عام 2024، والتي لا يمكن دستورياً تجديدها. وتعكس قراءة التعديلات مجموعة من الدلالات المهمة المفسرة لها ولأهدافها.
* أولها: الرغبة في إحداث الاتساق الواجب مع مكانة روسيا الدولية، فقد تم وضع الدستور الحالي عام 1993، ضمن ظروف تفكك الاتحاد السوفييتي وخروج موسكو مهزومة من الحرب الباردة، وكان هناك اعتقاد بأنه دستور تم إملاؤه من الغرب، وبه مواد تمس السيادة الروسية، وخاصة النص على أن المعاهدات والاتفاقات الدولية التي توقعها روسيا لها الأولوية على القانون الروسي، أي أن السيادة للقانون الدولي وليس القانون الروسي. ومن ثم فقد تضمنت التعديلات النص على أن «أحكام المعاهدات الدولية للاتحاد الروسي التي تأتي خلافاً للدستور لا تخضع للتنفيذ»، أي أولوية القانون الروسي على القانون الدولي، وأن المعاهدات والاتفاقات الدولية التي لا تتسق مع القانون الروسي تعتبر والعدم سواء.

منع الاختراق

* ثانيها: مزيد من التضييق على محاولات اختراق النظام الروسي من الخارج، وسبق أن أصدرت روسيا قوانين صارمة بشأن التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، وأشار الرئيس بوتين، إلى أنه «شهد شخصياً في بعض الأحيان بروز إغراء إدارة روسيا من الخارج لدى البعض». وتشمل التعديلات الدستورية سد ثغرة أخرى تتمثل في نفاذ مزدوجي الجنسية والموالين لدول أجنبية إلى مراكز صنع القرار، وشغل وظائف ذات صلة بضمان أمن البلاد وسيادتها في روسيا. فقد نصت التعديلات على أنه لا يحق للمواطنين الذين سبق لهم حمل جنسية أجنبية أو الإقامة في دولة أجنبية، أو يقيمون في روسيا بشكل دائم لمدة تقل عن 25 عاماً، الترشح لمنصب الرئيس الروسي. كذلك، لا يحق للمواطنين دون سن 21 عاماً، وحملة الجنسية الأجنبية أو الإقامة الأجنبية، الترشح لانتخابات مجلس الدوما. ولا يجوز أن يتمتع المحافظون، ورئيس الحكومة، ونوابه، والوزراء، ورؤساء الهيئات الفيدرالية الأخرى، وأعضاء البرلمان بمجلسيه الاتحاد والدوما، والقضاة بجنسية مزدوجة أو إقامة في الخارج.

تحسين المستوى المعيشي

* ثالثها: التخفيف من مساءلة الرئيس عن أداء الحكومة نتيجة ضعف الإنجاز في مهام حيوية يتصدرها تحسين الأداء الاقتصادي، بما يتوازى مع النجاحات التي تم تحقيقها على صعيد السياسة الخارجية. فقد تصاعدت حدة الانتقادات لحكومة ديمتري ميدفيديف لإخفاقاتها الاقتصادية المتتالية، وعجزها عن تلبية تطلعات المواطنين الروس في تحسين مستويات المعيشة، والارتقاء بمستوى الخدمات. وكان الرئيس بوتين قد أطلق مجموعة من الأهداف في مستهل فترته الرئاسية الحالية عام 2018 بشأن تحسين مستوى رفاهة المواطنين، في قراءة صائبة من جانبه لنبض الشارع والمواطن الروسي، إلا أن الحكومة عقب مرور عامين تقريباً لم تستطع تنفيذ ما وعد به الرئيس، واستمرت الصعوبات الاقتصادية على ما هي عليه.

توسيع صلاحيات «الدوما»

ومن ثم تتضمن التعديلات الدستورية سلطات أوسع لمجلس الدوما في تعيين رئيس الحكومة وفريقه الوزاري، حيث يجب ترشيحهم من قبل مجلس الدوما، ولا يحق للرئيس رفض الترشيحات المقدمة من المجلس، ويعمل الرئيس على تعيينهم بعد إقرار ترشيحهم في مجلس الدوما، وذلك بهدف إشراك البرلمان في المسؤولية عن أداء الحكومة باعتباره هو الذي سيختارها، وله الكلمة العليا في تشكيلها، وهو الأمر الذي يجعل من البرلمان المسؤول أمام الشعب عن الأداء الحكومي وليس الرئيس.
ولا يعني ذلك التحول إلى النظام البرلماني، فقد أكد الرئيس بوتين أن روسيا يجب أن تبقى جمهورية رئاسية قوية. ومن المفترض أن يجعل هذا التعديل النظام الروسي أكثر توازناً واستقراراً، لكنه لا يؤثر في هيكل النظام الذي سيظل رئاسياً، وسيظل للرئيس السيطرة المباشرة على القوات المسلحة وجميع هيئات أنظمة إنفاذ القانون، بما في ذلك المدعون العامون الإقليميون، وتعيينهم، ويحق للرئيس كذلك إقالة قضاة المحكمتين العليا والدستورية، في حال اقترفوا مخالفات، بحسب القانون، فضلاً عن سلطاته الواسعة في مجال السياسة الخارجية.

رئيس لفترتين فقط

إلا أن التعديلات الدستورية قيدت فترة حكم الرئيس، حيث تضمنت النص على أنه «لا يحق لرئيس روسيا أن يشغل منصبه لأكثر من ولايتين»، ويعني هذا أنه لا يجوز أن يعود الرئيس إلى السلطة مجدداً بعد فترتين رئاسيتين حتى بعد فترة بينية، كما حدث عندما تبادل ميدفيديف والرئيس بوتين المواقع، وقد عززت استقالة الحكومة الروسية عقب خطاب الرئيس بوتين مباشرة، ليتوارى رئيس الحكومة ديمتري ميدفيديف عن بؤرة الضوء وينتقل إلى منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي استبعاد هذا السيناريو وقطعت الشكوك والتكهنات حول تكراره.
من ناحية أخرى، تم إدخال تعديلات مهمة على مجلس الدولة، وتم النص على أن يشكل الرئيس الروسي مجلس الدولة لضمان العمل المنسق لهيئات السلطة في الدولة، والتفاعل بينها، وتحديد الاتجاهات الرئيسية للسياسة الداخلية والخارجية لروسيا والمجالات ذات الأولوية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية للدولة، على أن يتم تحديد الصفة القانونية لمجلس الدولة بموجب قانون فيدرالي خاص، وكان مجلس الدولة قبل التعديلات هيئة تشاورية غير دستورية يرأسها رئيس البلاد، وتجتمع عدة مرات سنوياً، ويضم المجلس جميع رؤساء السلطة التنفيذية في المناطق الروسية كافة والمفوضين الرئاسيين، ورئاسة مجلس الدوما، ومجلس الاتحاد، وحكام المناطق الروسية السابقين الذين يعينهم الرئيس، كما تم منح مجلس الدولة صلاحية تعيين المدعي العام ونوابه، ورئيسي المحكمة الدستورية والمحكمة العليا، ورؤساء الأجهزة الأمنية بناء على مقترحات الرئيس.
وقد فسر البعض ذلك بأنه محاولة من الرئيس بوتين لترتيب مستقبله السياسي في فترة ما بعد انتهاء مدة رئاسته في 2024، وأنه قد يتولى رئاسة مجلس الدولة، أو رئاسة «حزب روسيا الموحدة» صاحب الأغلبية البرلمانية، وبذلك يمكنه تولي منصب رئيس البرلمان الذي يتحكم في تشكيل الحكومة ومراقبة عملها.
* رابعها: امتصاص عدم الرضا الشعبي عن مستويات المعيشة، حيث تنص التعديلات على ضمان أن يكون الحد الأدنى للأجور عند مستوى لا يقل عن الحد الأدنى لتكلفة المعيشة في روسيا، إضافة إلى ضمان حماية المعاشات التقاعدية والاستحقاقات الاجتماعية وغيرها من المدفوعات الاجتماعية من التضخم من خلال ربطها بمؤشرات الأسعار الاستهلاكية، وأن يكون نظام التقاعد للمواطنين الروس «على أساس المبادئ العالمية والعدالة وتضامن الأجيال».
إن التعديلات الدستورية جاءت بمنزلة خطوة استباقية لامتصاص عدم الرضا بين المواطنين الروس، وحماية استقرار النظام السياسي وضمان استمراره، ونزع فتيل أزمة لم تكن قد بدأت بعد.

* أكاديمية وباحثة (مصر)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"