الجزائر وتدارك الانقسام

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

يقترب الحراك الجزائري من إتمام سنته الأولى في فبراير/شباط المقبل، ولم يكن هذا الحراك بلا نتائج؛ فقد تمت إقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وأودع عدد من كبار المسؤولين وراء القضبان؛ ومنهم شقيق بوتفليقة، إلى جانب رئيسي وزراء سابقين مع أعلى مسؤولين اثنين في الأجهزة الأمنية، إضافة إلى عدد من كبار رجال الأعمال الذين راكموا ثرواتهم؛ عبر تحالفهم مع أركان السلطة. وجرت انتخابات رئاسية لم يطعن أحد بنزاهتها؛ أوصلت الوزير السابق عبد المجيد تبون إلى رئاسة البلاد. وتشكلت حكومة برئاسة عبد العزيز جراد، وقد باشرت مهامها. وشاءت الأقدار أن يختتم الرجل القوي رئيس هيئة الأركان قايد بن صالح حياته؛ إثر أزمة قلبية، وقد سار في وداعه الأخير نحو ثمانية آلاف جزائري في واحدة من أكبر الجنازات التي شهدتها البلاد. وابن صالح كان مصمم التغييرات التي وقعت؛ بل هو الذي فتح الباب أمامها؛ بدعوة بوتفليقة الذي اشتد عليه المرض إلى التنحي.
يصف حراكيون جزائريون العهد الجديد في بلادهم بأنه أعاد رموزاً من العهد السابق، وأن النظام في الحصيلة لم يتغير. وهي وجهة نظر لا تخلو من الصحة ولو نظرياً. غير أن النظام موضع الرفض، أثبت أنه على جانب من المرونة، خلافاً لكل التوقعات، فقد تحققت مطالب أساسية للمحتجين، ويستذكر المرء أن المطالب كانت تتمحور، وتكاد تقتصر في البداية على خروج بوتفليقة. وقد خرج الرجل، ومعه شخصيات أسندت إليها اتهامات، وبعضهم تلقى أحكاماً كبيرة بالسجن، فقد حُكم على رئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى، وعلى سلفه عبد المالك السلال، 15 سنة للأول، و12 سنة للثاني.
أما أن يواصل أشخاص مسيرة حياتهم المهنية بصورة طبيعية؛ فذلك من منطق الأمور وطبيعة الأشياء، وكونهم كانوا عملوا مع النظام السابق، فذلك لا يجعلهم يعدون بالضرورة جزءاً من ذلك النظام، فالعمل ضمن مؤسسات الدولة هو حق للجميع، والفيصل هو في عدم تمكين الفاسدين من مواصلة فسادهم.
وبعدئذ فلا ريب أن ما وصل إليه هذا البلد العربي خلال أقل من عام، لا يمثل غاية الإرب، ونهاية طموح شعبه. غير أن التغييرات التي وقعت، تفتح الباب أمام المزيد من عمليات التصويب. فأمام الحراكيين الآن فرصة لحوار مثمر وجدّي مع السلطة الجديدة، أو لتكن تسميتها سلطة انتقالية، وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية؛ وفق قانون انتخابي أكثر عصرية، ثم النظر في الدستور؛ لإدخال ما يلزم عليه من تعديلات، تكرّس مبدأ سيادة القانون، ومرتكزات تداول السلطة، والفصل بين السلطات.
وبما أن الحراك بات حقاً محترماً للجمهور، بعد أن تراجعت آلة التعسف والتنكيل إلى أبعد حد، فإن بوسع الحراكيين بدء الحوار مع السلطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والمحافظة في الوقت ذاته على احتجاجهم السلمي. وبالوسع اشتقاق ما يمكن التوافق عليه؛ كإجراء حوار وطني يخرج بميثاق سياسي اجتماعي، يحدد المحطات المستقبلية لبلوغ الأهداف المشتركة؛ إذ إن عموم الجزائريين باتوا بحاجة إلى تدارك الانقسام الذي أخذ يدب في صفوفهم؛ وذلك نتيجة توزع الخيارات السياسية وتضاربها. بين من يعتقد أن التغيير قد تم بالفعل وبنسبة ملحوظة؛ مما يملي العودة إلى الحياة الطبيعية، ومن يعتقد أن النظام لم يتغير، وأن تبدلاً في الوجوه هو الذي حدث فحسب، وأنه لا بد من استمرار الاحتجاجات حتى تحقيق الأهداف. وفي ضوء ذلك، فإن الحاجة تقتضي أن تنشط أجسام وطنية وسيطة، ليس لمجرد التجسير بين الطرفين؛ بل لإشاعة أجواء أكثر إيجابية؛ تفادياً لحالة الشلل، أو لتجنب استمرار شيوع حالة اللاثقة، التي تمنع التقدم إلى الأمام، وتستنزف الطاقات في سجالات لا تنتهي يدفع المواطن العادي ثمنها في النتيجة، ومن أجل الانتقال إلى حد أدنى من التوافق الوطني والالتزامات المتبادلة التي تضمن وضع أجندة زمنية وسياسية؛ للمضي قدماً في عملية التغيير، وتجديد هياكل الدولة، وتعزيز الرقابة الشعبية واستقلالية القضاء، والانطلاق من ذلك؛ لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، والشروع في تنمية شاملة. وهناك الآن فرصة كبيرة للخروج من النفق الطويل، ورؤية النور في نهايته التي تقترب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"