استفزاز عابر للقارات

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

الاستفزاز سلوك مقيت ينبذه الناس، ويتجنبون التعامل مع الأفراد والجماعات والهيئات والمؤسسات التي تتخذه أسلوباً في التعامل؛ إنما عندما يصل الأمر إلى حد سلوك بعض الدول سلوكاً استفزازياً في تعاملاتها مع الآخرين متجاوزة مبادئ القانون الدولي وقيم المجتمع الإنساني، عندها تكون الطامة الكبرى. وعندما يعجز المجتمع الدولي عن تقويم اعوجاج الدول المستفزة لا يكون أمامه سوى فرض العقوبات عليها أملاً في أن تعود إلى رشدها، ولو واصلت غيها لا يكون سوى الحصار السياسي والعزل الجغرافي والعقاب الاقتصادي مصيراً لها. 

 بعض السياسيين يرون في الاستفزاز وسيلة لابتزاز وتشويه المعارضين لهم، ويعتبرونه الطريق لتحقيق مكاسب، وعادة ما يكون هو السلوك الأكثر رواجاً خلال مواسم الانتخابات التي يخرج فيها بعض المرشحين عن القواعد ويتجاوزون الأعراف ويعتبرون أن تحقيق أهدافهم هو الغاية التي يستبيحون لأجلها كل شيء وأي شيء. 

أما الدول المستفزة، فلو نظرنا من حولنا أو على خريطة العالم، فسنجد نماذج عدة منها، ومن بينها دول محاصرة ومعاقَبة ومعزولة؛ وفي الطريق للانضمام إلى نادي الدول المعزولة تركيا التي أصبحت معروفة عالمياً ب«الدولة المستفزة»، وهو مصطلح راج عنها ووصفها به رؤساء وزعماء في المشرق والمغرب، بعد فشل الكثير من المحاولات الدبلوماسية في إعادتها إلى طريق الرشد، والتزام ما ادعته في بداية إطلال رئيسها الحالي على الساحة السياسية من أنها ستتبنى نهج «صفر مشاكل» في علاقاتها مع الجوار والعالم، والصفر أصبح أصفاراً وأصفاراً تتيمّن ما تشاء من أرقام صحيحة، بعد أن اكتشف سلطان الأوهام أردوغان أن «الصفر مشاكل» يحول دون تحقيق أطماعه في أن يكون خاقان البر والبحر الذي يستعيد «أمجاد» امبراطورية الدم والنار العثمانية، التي سودت صفحات التاريخ الإسلامي بما ارتكبته من مجازر ولم تترك للبشرية من ميراث في الدول التي احتلتها سوى الجهل والتخلف. 

 لم يسلم جار ولا غير جار من استفزازات تركيا، طالما كان مطمعاً لأردوغانها حتى لو كانت البحار والمحيطات تفصله عنها، ومارس خاقانها الاستفزاز والابتزاز على كل دولة بأسلوب، متوهماً أنه القادر على أن يلعب بالجميع في سبيل تحقيق أطماعه. 

 على مستوى العالم الإسلامي تبنى أردوغان الضالين والمضللين من أبنائه وفتح لهم الديار العثمانية ودربهم ومدهم بالسلاح، أملاً في أن ينشروا الفوضى والخراب في دولهم ويأتي هو بعدها على الحصان الأسود ليجمع الغنائم ويفعل ما فعله أجداده في الزمن الغابر، وقد نجحت لعبته في بعض الدول واستعصت على أخرى مثل مصر التي استخدم كل أساليب الاستفزاز معها منذ يناير 2011، وبعد أن أحبطت مخططه هو وزبانيته في 30 يونيو، حاول أن يمارس عليها هوايته من الجنوب عبر السودان، ليتم إحباط المخطط، فكانت استدارته لاستفزازها من الغرب عبر ليبيا، بجانب استفزازاته لها عبر دعمه للفضائيات «الإخوانية» التي اتخذت من إسطنبول قاعدة للهجوم عليها. 

 استفز القارة الأوروبية بكاملها عبر لعبة اللاجئين السوريين الذين استخدمهم كورقة ابتز بها الاتحاد الأوروبي وقبض ثمناً باهظاً، ولم يشبع ليطلق عليها أمواجاً هادرة ويتسبب بأزمات سياسية داخل أكثر من دولة، ناهيك عن المعاناة والآلام التي عاشها اللاجئون خلال عبورهم الموانع البرية والمائية، وها هو يواصل استفزاز أوروبا عبر التعدي على مياهها في شرق المتوسط بحثاً عن كنوز الطاقة، مستخفاً بقادتها ليأتيه الرد بعقوبات والتهديد بأن تكون أكثر ردعاً إن لم يعد إلى رشده قبل مارس المقبل. 

 استفزازات الدولة التركية نالت نصيبها منها سوريا والعراق وأرمينيا، ولم تسلم منها حليفتها روسيا بعد أن تجاوزت معها الخطوط الحمر في سوريا وفي الصراع الأذري الأرميني على كاراباخ، وأيضاً أمريكا التي تغافلت كثيراً عن تجاوزات حليفها أردوغان حتى ازداد طمعاً ومارس عليها الاستفزاز ونشر صواريخ اس 400 الروسية على أراضيه، متحدياً إدارة ترامب ومتجاوزاً قوانين الناتو وهو أحد أعضائه. 

اليوم يسعى أردوغان إلى خلق الفوضى في الصومال ليس بهدف استفزاز شعبه وحكومته فقط، لكن لاستفزاز الدول المحيطة. 

 تركيا تتجول استفزازاً في قارات العالم، وإذا لم تلق الردع المناسب من المجتمع الدولي فسوف تستشرس ولن يمنعها انهيار عملتها اقتصادياً ولا غضب المعارضة ولا معاناة الشعب، وسيزداد أردوغانها جنوحاً وجشعاً سعياً لاستعادة الأمجاد الوهمية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"