شعراء يعتزلون لعبة القصيدة

02:42 صباحا
قراءة 6 دقائق
القاهرة: إبراهيم حمزة

«إنه ليمر عليّ الوقت، ولقلع ضرس من أضراسي أيسر عليّ من قول الشعر» بهذا التعبير أظهر الفرزدق معاناة الشاعر في إنشاده الشعر حين يمتنع عليه الإنشاد، وتنغلق سبل الوحي أمامه، وعلى امتداد التاريخ رأينا شعراء يعتزلون الشعر، رغبة أو رهبة أو عجزاً.
كان الخليل بن أحمد علامة عصره، لكنه إن سئل عن عدم إنشاده الشعر أجاب: «يأباني جيده وأأبى رديئه» وهكذا لا يطاوع الشعر دائماً، فالشعر من «نفس الرحمن مقتبس» كما كان العقاد يقول، ولذا يذكر «المفضل الضبي» أن علمه بالشعر يمنعه عن إنشاده، ويقولها شعراً:

«أبى الشعر إلا أن يفيء رديئه
عليّ ويتأتى منه ما كان محكما».

لا حاجة للمزيد من تكرار انصراف الشعراء القدامى عن الشعر، فمنهم من هجره الشعر، فاعتزله مضطراً، ومنهم من شغلته بلاغة القرآن والحديث، ومنهم من وجّه اهتمامه لأمر جديد ملك عليه نفسه، وقد اشتهر لبيد بن ربيعة بتركه الشعر، ويروي صاحب «مطالع البدور ومنازل السرور» علي بن عبد الله الغزولي (المتوفى سنة 815 ه) أن لبيداً حين كانت تهب ريح الصبا كان ينحر ويطعم الناس، وذلك في الجاهلية، وقيل إن الوليد بن عقبة أرسل إليه مئة بقرة وكتب إليه يقول:

أرى الجزار يشحذ شفرتيه
إذا هبت رياحُ أبي عقيلِ

فلما أتاه الشعر؛ قال لبيد لابنته: يا بنية أجيبيه فقالت:

إذا هبت رياح أبي عقيل
دعونا حين هبتها الوليدا

وإنما أمر الشاعر ابنته أن تجيب الوليد؛ لأنه لم يقل شعراً منذ أن أسلم.
وقال له يوماً عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يا أبا عقيل أنشدني شيئًا من شعرك فقال: ما كنت لأقول شعرًا بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران، فزاد الفاروق في عطائه، وفي كتاب «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط» يقول مؤلفه أحمد بن الأمين الشّنْقِيطي عن الشاعر الهادي بن محمد أنه «كان ترك الشعر رحمه الله، قبل موته بمدة».
لمعظم أساتذة الجامعة كتابات إبداعية جيدة، كتبت في بدايات عملهم الوظيفي، ثم تغيرت الأحوال، فاعتزلوا الإبداع، وربما كان السبب نفسياً، إذ لا يصح أن يقع الأستاذ ضحية، ويوضع في عصارة النقد، التي طالما أوجع غيره فيها، وهناك نقاد توقفوا قبل رحيلهم أشهرهم: عز الدين إسماعيل وأحمد كمال زكي وعبد القادر القط، وكانوا قد بدؤوا شعراء، وأصدر بعضهم دواوين، حتى طه حسين كان يكتب الشعر، والشعراوي أيضاً، كما أن المفكر والناقد محمود أمين العالم لديه ديوان شعر طبع مرة واحدة تحت عنوان «أغنية إنسان».
ولا يختلف الشعراء في الغرب كثيراً، فقد رصدت الناقدة «آلاء السوسي» هذه الظاهرة في الأدب الغربي، وطرحت في دراستها أسماء لها قيمتها، مثل «رامبو» الذي نشأ لأمٍّ كاثوليكية وأبٍ عسكريّ، وبعد تنقلات عديدة، يصل إلى عدن، ليصبح تاجراً، بعدما هزل، ويترك الشعر، حين يحس بأنه لن يصل لجوهر الشعر الحقيقي إلا بحصوله على حريته المطلقة.
لا يمكن الحديث عن اعتزال الشعر دون تذكر إبراهيم ناجي، وذلك النقد القاسي الذي أطلقه طه حسين ضده، إذ قال في جريدة «الوادي» عدد يونيو 1934: «صاحب الديوان، شاعر هين، لين، رقيق، حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، ولكن إلى حد لا يستطيع أن يتجاوز الرياض المألوفة، هو شاعر حب رقيق، لكنه ليس مسرفًا في العمق ولا مسرفًا في السعة «وردّ «ناجي» على طه حسين: «لو سألت نفسك عن أحب الكتب إليك، قلت: الأيام، لماذا؟ لأنها قصيدتك الكبرى، فيها دموعك، وضعفك كذلك، هي أقوى ما كتبت» وعلى إثر ذلك أعلن «ناجي» أنه سينصرف عن الشعر والأدب، بل ويسجل ذلك شعراً، لكن طه حسين، عاد فكتب أنه لم يحزن حين أعلن ناجي زهده في الشعر، وقال: «إني منتظر أن يعود الدكتور ناجي إلى جنة الشعر» وقد عاد.

قتيل الحياء

أما عبد الرحمن شكري فهو نموذج نادر التكرار، فقد كانت روحه هشة، لم يمتلك طبيعة «الجبار» التي التصقت بالعقاد، ولا حدة لسان المازني، رفاقه في تأسيس مدرسة الديوان الشعرية، ولم يصمد أمام الموجة العاتية المتطاولة التي أغرقته، فكان مقاله الذي ذكر فيه شيئاً من سرقات المازني، قائلاً: «لقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها «الشاعر المحتضر» واتضح أنها مأخوذة من قصيدة «أدوني» للشاعر الإنجليزي «شيللي» كما لفتني صديق آخر لقصيدة المازني التي عنوانها «قبر الشعر» وهي منقولة عن «هيني» الشاعر الألماني ولفتني آخر إلى قصيدة....».
واستمر شكري في سرد سرقات المازني، منهياً مقاله بقوله: «لا أظن أحداً يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه، ولكن هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت ومعاتبته في عمله، لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه»، وكانت تلك بداية معركة أدبية قاسية، انهزم فيها شكري، ولم يستطع تحمل سهام المازني الموجهة إليه، فقد تحول شكري إلى «صنم الأعاجيب» وصار «خمول شكري وفشله واضحاً في كل ما عالجه» هذا «المرزوء في عقله».. «متكلف لا مطبوع» «جاهل بوظيفة الشعر» «الأبكم المسكين»...... ومن المدهش أن المازني نفسه قد اعتزل الشعر، والعقاد أيضاً طغت شهرته كمفكر وسياسي على دوره كشاعر مجدد.
أصدر شكري سبعة دواوين: أضواء الفجر، لآلئ الأفكار، أناشيد الصبا، زهر الربيع، الخطرات، الأفنان، أزهار الخريف.. ثم صدر له ديوان ثامن سنة 1960 بعد وفاته بعامين، وكل دواوينه صدرت بين عامي 1909م و1919م، وقد اعتزل الشعر بقية حياته، وإن لم يخل الأمر من قصائد معدودة نشرها في الهلال والمقتطف والرسالة والمقطم والأهرام، عاش شكري في بورسعيد أخريات حياته، فلم يتزوج، وعاش محروماً من كافة متع الحياة، ناقماً عليها وكان يقول «إن الحياء من أكبر أسباب الفشل في الحياة».
على الجانب الآخر يبدو الشاعر اللبناني خليل حاوي قتيلاً للنكبات العربية، فقد أنهى حياته غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م وترك الخلق يختصمون حول أسباب هذا الانتحار، ويدورون بين تفسيرات متعددة: ربما النكبات العربية، وربما حين غادره الشعر، وفسر البعض أن عدم وجود أطفال لديه كان سبباً لانتحاره، وقالت ديزي الأمير إنه كان يعاني نوبات صرع، والحقيقة أن هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى هذا الحل المؤسف، خاصة أنه حاول الانتحار في مرتين سابقتين، لكن هجران الشعر له - وهو سيفه وقيمته وقوته - كان سبباً مهماً لانتحاره.
أصدر حاوي دواوينه الخمسة: نهر الرماد (1957) والناي والريح (1961) وبيادر الجوع (1965) والرعد الجريح، ومن جحيم الكوميديا (1979) ثم صدمته أولى الأزمات التي تمثلت في عجزه عن الكتابة، وكأنه كان يشعر في طويته بأن الشعر خانه، واللغة خانته.
وهناك من انشغل عن الشعر فانصرف الشعر عنه، مثل الشاعرة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي التي لم تصدر سوى ديوان واحد عام 1964 بعنوان «العودة إلى النبع الحالم» ثم أخذتها الدراسات النقدية والتدريس الجامعي، وهناك مجموعة من النقاد الكبار وقفوا على هذا الجسر بين الإبداع والنقد.
ربما كان أحمد عبد المعطي حجازي واحداً من الأصوات المهمة، التي توقفت تماماً عن كتابة الشعر، وكان قد أصدر أول دواوينه «مدينة بلا قلب» في عام 1959، وفي ذات العام نشر ديوانه الثاني «أوراس» وفي عام 1965 صدر الديوان الشعري الثالث لحجازي بعنوان «لم يبق إلاّ الاعتراف» أما الديوان الرابع «مرثية العمر الجميل» فنشر عام 1972 بعدها أصدر ديوانًا اسمه «كائنات مملكة الليل» يليه «أشجار الأسمنت» عام 1989.
وطوال أكثر من ربع قرن، لم يصدر حجازي أي دواوين شعرية جديدة، وهذا ما كان موضوع لغط كبير حول شعرية حجازي، وقيمته في سباق الريادة الشعرية المصرية، وبالتالي مقارنته بصلاح عبد الصبور فرس الرهان الأول في هذا السباق، لكن حجازي في محاولة للخروج من هذا المأزق يصدر ديوانه الأخير عام2011م بعنوان «طلل الوقت» وبه ست عشرة قصيدة، ولم يكن الديوان يحمل جديداً.
يقول أحد النقاد عن هذا الديوان: «قصائده تطغى فيها المباشرة على كل شيء، ويجتاح الانفعال النص بلا اعتبار، ويعلو الشعار السياسي فيسحق «الشعري» تحت وطأته، لا يوجد شعر، بل توجد أفكار وانفعالات موزونة تفعيلياً، بما يوهم بالشعر».


غياب

يقول أحمد عبد المعطي حجازي مبرراً هذا الغياب لمدة 25 عاماً عن الشعر: «لم أغب عن الشعر، ولم يغب عني، وشاعر مثلي صارت له الخبرة ليجلس ويكتب، ويستدعي الشعر، ويكتبه في وقت قصير، غير أني لا أفضل أن أكتب القصيدة إلا إذا فرضت نفسها عليّ فرضاً».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"