الغرب والنظام الدولي المزكوم

03:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أسهمت الأزمة الصحية العالمية الناجمة عن «جائحة كورونا» في سرعة تراجع أسس النظام العالمي، وفي إبراز ضعف وهشاشة كثير من القوى الكبرى في مواجهة خصم عنيد وغير مرئي أسهم في شلل شبه تام في اقتصاديات القسم الأعظم من دول العالم، وأدى إلى تبعية مفاجئة وغير مسبوقة للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا للمستلزمات الطبية المصنعة في الصين.
ورسخت هذه التحولات الدراماتيكية توقعات كثير من المفكرين والمحللين الذين تحدثوا منذ سنوات، عن بوادر انقلاب غير مسبوق في النظام العالمي وفي العلاقات الدولية، نتيجة لدخول فاعلين جدد لمعترك السياسة الدولية، مثل الدول الناشئة ومجموعة «البريكس»، وتحوّل المجتمعات نفسها إلى فاعل رئيسي ينافس السلطة التقليدية للدول، في سياق ما يسميه برتراند بادي «بدبلوماسية الدخيل».
كما تُرسّخ في السياق نفسه، تطورات أزمة «كورونا»، ما سبق أن أكده بادي في كتابه: «ضعف القوة» مع ظهور الولايات المتحدة الأمريكية شبه منهارة في مواجهة عدو مجهري استطاع بشكل لافت، أن يُبرز ضعف وتهالك المنظومة الصحية الأمريكية. ويمكن القول إن أبرز تحوّل ناجم عن هذه «الجائحة»، يتمثل في تسارع تراجع سيطرة الغرب على العالم، وهو الأمر الذي سبق أن أكده بادي في كتابه الذي حمل عنوان: «لم نعد لوحدنا في العالم.. نظرة مغايرة للنظام الدولي»، والذي يشير فيه إلى حالات انعدام النظام التي يشهدها العالم، ويؤكد أن الغرب لم يعد وحيداً في العالم، وعليه أن يتوقف عن التمسك بنزعته المركزية التي تدفعه إلى النظر إلى الآخرين كبرابرة.
ويؤكد بادي في هذا الكتاب الموجّه للغرب، أن العالم أضحى أكثر تعقيداً مما كان عليه، ومن الصعب فك كل ألغازه، ففي سياق مواجهة النظام الموروث عن مرحلة الحرب الباردة، دخل العالم مرحلة جديدة من اللانظام الجيوسياسي تهدد بالسقوط في الفوضى؛ مرحلة أدت إلى إضعاف الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق، وإلى بروز قوى اقتصادية عالمية جديدة وقوية من خارج الغرب، وإلى ثوران ما يسمى «الدول المارقة»، ومجموعات إرهابية عصية على السيطرة.
ويخلص بادي إلى القول، إن لعبة القوة أصبحت مزكومة، والنظام الدولي لم يعد من الممكن تسييره والتحكم فيه من طرف ناد صغير من الأوليجارشيين، يُقصي الضعفاء ويتجاهل مطالب تحقيق العدالة المنبثقة من عالم جديد يوجد فيه فاعلون أكثر تعدداً، وأقل التزاماً بالضوابط العشوائية للغرب.
ويدعم بسكال بونيفاس هذا التحليل بحديثه في عز الأزمة الصحية العالمية عن ضرورة نزع الطابع الغربي عن العالم، ويقول إنه من بين الدروس الأساسية التي تقدمها لنا هذه «الجائحة»، هو أن الأوبئة لم تعد تمثل شأناً يتعلق بإفريقيا والدول الفقيرة، وأن الدول الأوروبية والغنية ليست بمنأى عن مثل هذه الكوارث الصحية، وأن الغرب أصبح نتيجة لذلك أكثر هشاشة مما كان عليه من قبل، وأنه فقد هيمنته على العالم. وقد أبرزت هذه الأزمة دائماً حسب الكاتب أن النظام الغربي ليس أفضل من الأنظمة الأخرى؛ لأن النظرة الاستعلائية للغرب تجاه الآخرين، تُسهم في ضعفه وفي تراجع قوته.
ويضيف باسكال بونيفاس، أن الولايات المتحدة هي أكثر تمسكاً بالأحادية القطبية من أوروبا التي أفصحت في العديد من المرات عن استعدادها للتعاطي بشكل بناء مع القوى الصاعدة، وأن واشنطن في عهد ترامب تدفع بنزعتها الانفرادية إلى حدودها القصوى، من خلال انتقادها المتواصل للمنظمات الدولية، وانسحابها من اتفاق باريس للمناخ، ومن منظمة اليونيسكو، وقيامها أخيراً بتجميد مساهمتها المالية في منظمة الصحة العالمية في أحلك مراحل «الجائحة»، وهو تصرف يشبه إلى حد كبير القيام بوقف تمويل ثكنة لرجال المطافئ في أوج اشتعال النيران.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"